wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
أُم المعايير

أُم المعايير

كتبه: د. ونيس المبروك

 

من روائع التشريع، تأسيس الأحكام على الأخلاق ولا يوجد ثابت في رسالات السماء كالعقائد والأخلاق، فالأخلاق عنصرٌ ركينٌ في كل دين، ولا يمكن تمييز "المتدين" عن غيره، إلا بالخلق!

فهي معيار الصلاح، كما أن غيابها معيار الفساد، فمن فَسُد خلقه فسد دينه، وإن حَفِظ المتون وحاز الفنون، وانخدع بطلاوة لسانه الجاهلون

ومن جلال التشريع الإسلامي وجماله، تعليل جُل أحكامه تعليلا أخلاقيا، وأنك لا تكاد تجد ناحية من أنحائه، ولا تشريعا من تشريعاته إلا والأخلاق روحها التي تمنحها الحياة، ومعينها الذي يصدر عنه الأحكام؛ تجد ذلك في العقيدة فهي حق وحقوق، وصدق وتصديق، وحب ووفاء، وتجد ذلك في تعليل تشريع العبادات؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء، والزكاة تطرد دواعي الشح والبخل، والصوم ينمي الصبر والإرادة، والحج لا يكتمل إلا بهجر الرفث والفسوق والجدال...، وتجد ذلك في كل أصول المعاملات والتعاقد، من سماحة بين البَيّعان، وبيانِ المَبيِع، والوفاء بين الأزواج، وأداء الأمانات إلى أهلها، بل تجد ذلك في السياسة والحكم، والحرب والسلم على حد سواء.

ومن أخطاء التعليم الديني في تاريخنا المعاصر غيابُ البعد الأخلاقي، فتجد الدرس الفقهي عبارة عن مواد قانونية جامدة جافة، ينتقل فيها الطالب من كتاب إلى كتاب، ومن باب إلى باب، دون ربط بين مسائل الفقه ومنظومة الأخلاق والعقائد والآداب والمقاصد، حتى صارت علامة الإجازة ومعيار العبور، ما حَفِظَه الطالبُ من مسائل الباب، لا ما تحلى به من أصول الآداب؛ بل تجد بعض طلبة العلم، كلما ازداد حفظا أو حاز علما؛ ضاق صدرُه وساءَ ظنُه ورقّ خلُقُه، فازداد تيها وغرورا، وغلظة وجفاء، وتعصبا وانغلاقا...!

وقد تسرّب هذا المنحى لأهل الاستنباط وتقرير الأحكام، بسبب الوقوع في التعامل الظاهري مع تصنيف العلوم وتبويب المسائل، فانفصل في ذهن الدارس الوشائج التي تصل العقيدة بالعبادة، والفقه بالأخلاق، والديانة بالقضاء، والمباني بالمعاني.

 كان لي شرف حضور أحد المجامع الفقهية عام 1999م، وكان موضوع الزواج بنية الطلاق مطروحا على بساط المجلس، ووقفت بنفسي على نقاش تلك المسألة، حيث أجاز أحد الفقهاء هذا العقد، وحجته في ذلك أن العقد قد توفرت " أركانه" واستكمل شروط صحته؟!

وكأن الشريعة التي حرمت الكذب والغش والخديعة بقواطع النصوص، هي نفسها التي تجيز تلك المحرمات في أغلظ المواثيق وأجل العقود؟!

وهكذا تقع المرأة فريسة "ذكر" يبتغي قضاء وطره إلى حين، لا "زوج" يبتغيها لباسا وسكنا، ونسبا وصهرا، دون تحيين.

الملحظ الآخر الذي أراه؛ هو البعد التربوي لمثل هذه الأحكام الفقهية الجامدة، فمثل هذه الأحكام "تُروِّض" الناسَ على مسالك بني إسرائيل في الخِداع، فقد حرّم اللهُ عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فحجزوها في الخليج يوم سبتهم واصطادوها الأحد!!

في هذه المقالة لا أتغيا مناقشة الحكم، ولا ترجيح الآراء، ولا التعقيب على من أفتى بالجواز، ولكني أود التأكيد على ما سمعته مرة من أستاذنا الجليل أحمد الريسوني؛ أن الأخلاق حاضرة في كل أنحاء التشريع، وإنها - كما ذكرت آنفا - العنصر الركين في كل دين، وهي معيار الصلاح، فمن فَسُدَ خلقه فسد دينه،

فهي ثابت الدين، وأم المعايير، وإن أفتاك الناس وأفتوك.

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.