دور السنة النبوية في البناء الاجتماعي للمجتمع

الدكتور زيد احمد المحيسن           

السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وتمثل سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله وتوجيهاته التي جاءت لتكون نموذجًا عمليًا لحياة المسلمين في شتى مجالات الحياة. لم تقتصر السنة النبوية على توجيه المسلمين في شؤون العبادة فقط، بل تعدت ذلك إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وجعلت من المجتمع الإسلامي مجتمعًا متماسكًا، يعتمد على العدالة والمساواة والتعاون بين أفراده. من خلال السنة النبوية، تمكَّن النبي صلى الله عليه وسلم من بناء مجتمع قوي، قائم على أسس الأخوة والمحبة بين أفراده، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين في علاقتهم مع بعضهم البعض يجب أن يشعروا كأنهم جسد واحد، فإذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وكان ذلك رمزًا لترابط المجتمع الإسلامي وتلاحمه في السراء والضراء.

لقد عززت السنة النبوية مفهوم التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمساعدة الفقراء والمحتاجين، وذكر في العديد من الأحاديث أن المسلم لا يكون مؤمنًا حقًا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ومن خلال هذه المبادئ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى توزيع الثروات بطرق عادلة، من خلال الزكاة والصدقة، مما ساعد في تقليص الفوارق الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. كما عمل على تأسيس مؤسسات اجتماعية مثل "بيت المال"، الذي كان يعنى بتوزيع الأموال على المحتاجين، وتنظيم قوافل التجارة، وتوزيع الغنائم بما يحقق العدالة الاجتماعية.

السنة النبوية لم تقتصر فقط على بناء العلاقات الأخوية، بل أكدت أيضًا على العدالة والمساواة بين الأفراد. فقد كانت هناك دعوة لتعامل الناس فيما بينهم بروح من المساواة بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو أصولهم. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، مما يشير إلى أن التفاضل بين الناس ليس بناء على المال أو النسب، بل على التقوى والعمل الصالح. وقد تجسد هذا المبدأ في مواقف عديدة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، المسلمين وغير المسلمين على قدم المساواة، بما يعكس قيمة العدالة في التعامل مع الجميع.

إلى جانب ذلك، عززت السنة النبوية مفهوم الحوار والتفاهم بين الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص دائمًا على إصلاح النزاعات وحل الخلافات بين الصحابة بطريقة سلمية، إذ كان يستمع إلى جميع الأطراف ويعمل على إيجاد حلول ترضي الجميع. هذه المواقف تؤكد على أهمية الحوار ونبذ العنف في التعامل مع الخلافات، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين كيفية حل مشكلاتهم عبر النقاش الهادئ والمستند إلى مبادئ العدالة والمساواة.

السنة النبوية أيضًا أكدت على أهمية التكامل بين الأفراد والمجتمع. فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الأعمال الفردية والجماعية، مشيرًا إلى أن سعي كل فرد لتحقيق الأفضل في مجاله يساهم في رفعة المجتمع ككل. ومن خلال الأحاديث التي حثت على الإحسان إلى الجار، واحترام الكبير، ورعاية اليتيم، وضرورة مساعدة الآخرين في قضاء حوائجهم، تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن كل فرد مسؤول عن بناء المجتمع وتطويره من خلال عمله الصالح والتعاون مع الآخرين.

علاوة على ذلك، فقد أولت السنة النبوية اهتمامًا بالغًا بتنظيم العلاقات الأسرية، باعتبار أن الأسرة هي اللبنة الأساسية لبناء المجتمع. فبناء الأسرة على أسس من المودة والرحمة كان من أولويات تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال في حديثه: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وقد حثَّ صلى الله عليه وسلم على معاملة الزوجة والطفل برفق ولين، وأكد على ضرورة الاحترام المتبادل داخل الأسرة.

إن دور السنة النبوية في بناء المجتمع الاجتماعي لا يقتصر على الجانب الديني فقط، بل يشمل أيضًا الجانب الاجتماعي والإنساني، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا في تعزيز الأخوة، والتعاون، والعدالة، والمساواة. وبذلك أسهمت السنة النبوية في بناء مجتمع قوي ومتراص، يشمل فيه الجميع، ويسعى لتحقيق المصلحة العامة لكل فرد فيه. وبذلك، تبقى السنة النبوية مصدرًا غنيًا للمبادئ التي تسهم في بناء المجتمعات المعاصرة، التي تقوم على أسس من التعاون والتفاهم والعدالة الاجتماعية.