رمضان: مدرسة الإرادة والتغيير
بقلم : أ. سمير اليوسف
يحلّ علينا شهر رمضان، ليكون محطة إيمانية متجددة، مدرسة تفتح أبوابها للروح والجسد، وتعيد ترتيب أولويات الإنسان، حيث يتعلّم فيه المسلم أن الإرادة الحقيقية كامنة في داخله، وأنه قادر على ضبط نفسه وتوجيهها متى شاء، إذا ما تحلّى بالعزيمة والنية الصادقة. هذا الشهر ليس مجرد فترة زمنية نؤدي فيها عباداتنا بروحانية مضاعفة، بل هو تجربة عملية تُثبت لنا أن بمقدورنا الارتقاء بأرواحنا وأفعالنا طوال العام، وليس فقط خلال ثلاثين يومًا.
حينما نستيقظ للسحور في وقت السحر، ذلك الوقت الذي يغلب فيه النوم والراحة، ندرك أن النهوض فجراً ليس بالمهمة المستحيلة، وأن ما نراه صعبًا يصبح ممكنًا حين يكون لدينا هدف واضح وإرادة صلبة. كثير من الأشخاص يواجهون صعوبة في الاستيقاظ لصلاة الفجر على مدار العام، لكنهم ينجحون في ذلك خلال رمضان، لأنهم يؤمنون أن هذا الوقت مهم ولا بد من اغتنامه. فإذا كان رمضان قادرًا على أن يعوّدنا هذا السلوك، فلماذا لا يكون الفجر جزءًا من حياتنا اليومية طوال العام؟ ألم يكن النبي ﷺ وأصحابه، ومن تبعهم من الصالحين، يجعلون من الفجر انطلاقة يومية لحياتهم، فينالون بركته ونشاطه؟
ومن ثم تأتي صلاة التراويح، لتثبت لنا أننا نستطيع الوقوف بين يدي الله طويلًا، حتى وإن كنا متعبين بعد يوم كامل من الصيام. كثير منا قد يظن أن قيام الليل أمر شاق، لكنه يجد في رمضان أن ذلك ممكن وميسّر، وأنه لو درّب نفسه على هذه العادة، لأصبحت جزءًا من برنامجه اليومي. فكم من شخص كان يرى صلاة التراويح عبئًا في البداية، ثم مع مرور الأيام وجد فيها راحة نفسية، حتى أصبحت متعته الروحية التي ينتظرها كل مساء! أليست هذه دلالة واضحة على أن النفس تتطبّع بما تُعوّد عليه، وأن الاستمرارية كفيلة بجعل الصعب سهلاً؟
أما الصيام، فهو الدليل الأكبر على أن الإنسان قادر على التحكم في رغباته. طوال النهار، يمتنع الصائم عن الطعام والشراب، ويكبح شهواته بإرادته الحرة، رغم أن كل ما يحيط به قد يدفعه إلى الإفطار، سواء كان جوعًا شديدًا أو عطشًا قاسيًا أو روائح طعام تفوح من كل مكان. لكنه يظل متمسكًا بصيامه، ليس لأنه غير قادر على الأكل، بل لأنه قرر ذلك بوعي وإيمان. وهنا يظهر الدرس الأعظم: الإنسان قادر على ضبط شهواته في كل وقت، لا فقط في رمضان، ولكنه يحتاج إلى تدريب مستمر حتى تصبح هذه القوة الداخلية جزءًا من حياته. ألم نجد أن كثيرًا من المدخنين يقلعون عن التدخين خلال رمضان؟ بل إن بعضهم يستغل هذا الشهر ليترك هذه العادة نهائيًا، لأنه أيقن أنه يستطيع كبح رغبته لو أراد.
كثيرون يظنون أن رمضان هو فترة زمنية مؤقتة يزداد فيها إيمانهم ثم يعودون إلى حياتهم السابقة بعد انتهائه. لكن الحقيقة أن هذا الشهر جاء ليُعلمنا أننا قادرون على الاستمرار فيما بدأناه، وأنه بإمكاننا أن نحمل روح رمضان معنا طوال العام. إذا كنا قد استطعنا خلال رمضان أن نقوم الليل، ونصوم، ونتصدق، ونقرأ القرآن، ونتحكم في أهوائنا، فما الذي يمنعنا من جعل هذه العادات أسلوب حياة؟
إن التاريخ الإسلامي مليء بأمثلة لمن فهموا رسالة رمضان الحقيقية، وجعلوه نقطة انطلاق للتغيير. فقد كان الصحابة والسلف الصالح يرون رمضان محطة للتزود بالطاقة الإيمانية التي تدفعهم لمواصلة العبادة بعده، ولم يكن شهرًا موسميًا بالنسبة لهم، بل كان مدرسة تُخرّج رجالًا ونساءً قادرين على تحمل المشاق وتهذيب النفس طوال العام.
إن العيش وفق نهج رمضان ليس مستحيلاً، بل هو الخيار الأمثل لحياة متزنة روحياً وجسدياً. فكما قال العالم الداعية محمد الغليظ: "عِشْ دُنياك كأنها رمضان، وستكون آخرتك عيدًا"، فليكن رمضان نقطة البداية، وليس محطة عابرة. لنحمل معه عاداتنا الطيبة، ولنحافظ على طاقة الإيمان التي اكتسبناها، حتى لا يكون رمضان مجرّد ضيف يرحل، بل تجربة تبقى معنا مدى الحياة.
ابحث
أضف تعليقاً