د. رمضان خميس زكي الغريب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم- وآله وصحبه ومن والاه...وبعد فإن التمكين لدين الله في الأرض أمنية كل عامل في حقل الدعوة إلى الله, بل غاية كل مسلم, ورجاء كل عبد من عباد الله, أن يرى دستور الله حاكما, ومنهاجه سائدا, حتى يعم النور أرجاء المعمورة, ويسودها الأمن والأمان, والراحة والاطمئنان, كما سعدت به البشرية حينا من الدهر,لكن لهذا التمكين خطوات وأسباب, وشروط ومقدمات, إن تحققت تحقق, وإن غابت تغيب, شأن كل سنة من سنن الله في أرضه وخلقه, سواء كانت سننا كونية ترى بالحس والمشاهدة, أو سننا اجتماعية تلحظ بالخبرة والمتابعة, وقد عني القرآن الكريم بالحديث عن هذه القضية أيما عناية, وتناولها من عدة جوانب, من جانب أهمية التمكين وضرورته,وجانب خضوعه لسنة ماضية وقانون متبع, لا يتخلف ولا يتحول, وجانب صفات جيل التمكين جنودا وقادة, وجانب مراحل التمكين, إلى غير ذلك من جوانب تلك القضية التي تحتاج إلى دراسات تأصيلية متواصلة تهدف إلى إبراز هذه الجوانب وإسقاطها على واقع المسلمين, حتى يأخذوا خطوة حقيقية إلى السلوك نحوها, فهما لأبعادها, وتصورا لدلالاتها, وإدراكا لقوانينها, وإ يعابا لسنن الله فيها.فقد عني القرآن عناية واضحة بفكرة( السننية) لقضية التمكين وأنها لا تأتي هكذا دون أسباب أو مقدمات, وذلك من خلال النماذج التي عرض القرآن تمكينها, وإقامتها لمنهاج الله في الأرض, مثل نبي الله يوسف وداود وسليمان وذي القرنين -عليهم جميعا السلام- فإن التمكين يخضع لسنة من سنن الله وقانون يمضي من خلاله وهذه الدراسة تهدف إلى إبراز فكرة (السننية) في هذه القضية كما صورها القرآن الكريم.
أولا أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
لدراسة هذه القضية أسباب دفعتني إلى دراستها منها:
ثانيا مشكلة البحث:
لا ينكر مسلم أهمية التمكين, وحاجة المسلمين بل الدنيا كلها, لكن غيوم الفكرة فكرة خضوع التمكين لقانون ثابت وسنة ماضية تجعل كثيرا من المسلمين يمضي على غير هدى, فيطلب النتائج من غير مقدماتها, (فكانت هذه الدراسة تهدف إلى التركيز على فكرة خضوع التمكين لأسباب وشروط محددة ذكرها القرآن وعني برصدها, حتى صار يخضع لسنة من سنن الله في خلقه, وهي سنة الله في التمكين), فأتت هذه الدراسة لإبراز هذه الأسباب والشروط والأهداف التي تمثل قانونا لا يتخلف ولا يتأجل ولا يتحول,(ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)().
ثالثا أسئلة البحث:
السؤال الأساس لهذه الدراسة هو: ما سنة الله في التمكين؟ويتفرع عنه أسئلة أخرى هي:
رابعا أهداف الدراسة:
يمكن حصر أهداف الدراسة من خلال الإجابة على الأسئلة السابقة في الآتي:
خامس حدود الدراسة:
تقتصر هذه الدراسة على بيان سنة الله في التمكين, من خلال معرفة مفهوم سنة التمكين, وأسبابه, وشروطه, وأهدافه في ضوء حديث القرآن عن هذه السنة من سنن الله-عز وجل-.
سادسا منهج البحث وأداته:
استخدم الباحث المنهج الوصفي الاستنباطي, وكانت أداته جمع الآيات ذات الصلة بالموضوع, وتحليلها, واستنباط الأسباب والشروط والأهداف المتعلقة بسنة التمكين,اعتمادا على ما كتبه علماء التفسير واللغة.
سابعا: الدراسات السابقة:
عرض لقضية التمكين عدد من الدراسات والبحوث منها ما يلي:
ثامنا: هيكل البحث:
اشتمل البحث على مقدمة, وأربعة فصول, وخاتمة.
الفصل الأول حول مفهوم سنة التمكين في اللغة والقرآن وورود لفظة التمكين ومرادفاتها في القرآن الكريم.وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول:مفهوم سنة التمكين في اللغة.
المبحث الثاني: مفهوم سنة التمكين ودوران الكلمة في القرآن الكريم.
المبحث الثالث: مرادفات التمكين في القرآن الكريم.
الفصل الثاني:في أسباب التمكين, وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول:الحفظ والأمانة.
المبحث الثاني: العلم.
المبحث الثالث:الأخذ بالأسباب.
الفصل الثالث:شروط التمكين, وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: الإيمان العميق.
المبحث الثاني: الترابط الوثيق, أو العمل الجماعي.
المبحث الثالث: العمل الدءوب.
المبحث الرابع: الربانية.
الفصل الرابع أهداف التمكين, وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: إقام الصلاة, أو( فقه العلاقة بين الإنسان والرحمن).
المبحث الثاني: إيتاء الزكاة, أو( فقه العلاقة بين الإنسان والإنسان).
المبحث الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو(التوازن المجتمعي).
المبحث الرابع: إقامة العدالة ونشر القيم.
الخاتمة, وشملت أهم النتائج والتوصيات.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
والله من وراء القصد.
الفصل الأول:
مفهوم سنة التمكين في اللغة والقرآن ومرادفات التمكين في القرآن الكريم
المبحث الأول:
مفهوم سنة التمكين في اللغة
كلمة سنة من الكلمات التي دارت في القرآن الكريم بصورة لافتة للنظر, وكما وردت في أحاديث النبي , وقبل الحديث عن سنة التمكين ينبغي أن نطل إطلالة سريعة على معنى كلمة سنة, في اللغة, والقرآن.
مفهوم سنة في اللغة :
ترى كتب اللغة أن السنة تعني السيرة والطريقة، حسنة كانت أو سيئة، مقبولة كانت أو مرذولة.()، ويري ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث والأثر) أن السنة تعني الطريقة والسيرة؛ ففي حديث المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. أي: خذوهم على طريقتهم، وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراهم.()
والفيروزبادي تلمس في بصائره الكلمة من نواحيها، وطرقها طرقًا يقترب مما نريد الوصول إليه، فهو يذكر أن (الأصل فيها الطريقة والسيرة، ومنه قوله : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» () أي طرق طريقة حسنة …، وسنة النبي : طريقته التي كان يتحراها. وسنة الله قد يقال لطريق حكمته وطريق طاعته، وقوله تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا"() تنبيه (إلى) أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها فالغرض المقصود فيها لا يتغير ولا يتبدل…، وسن الماء على وجهه: صبه صبًّا سهلا. وسن الحديدة حددها، وسنان ومسنون وسنين وسن سكينه بالمسن) ().
والناظر في كلام الفيروز آبادي -رحمه الله- يجده يلمس معنى السنة من خلال اختيار النصوص وتتبع المادة، ولعل إشارته إلى أن (فروع الشريعة وإن اختلفت صورها فالغرض المقصود منها واحد لا يتغير ولا يتبدل)، وبنعته لكلمة سن من سنَّ الماء على وجهه، والسنُّ بعض الرعي، كل هذا فيه ضبط دقيق من لمعنى اللفظة للسن بمعنى: الرعي، ففيه نوع من السير على نفس المرعي وبذات الطريقة جيئة وذهابا، وهو نفس السيرة والطريقة. ووحدة الغرض المقصود من الشرائع وإن اختلفت صورها نوع- أيضا- من اتحاد الهدف من السنة التي تجري على اللاحقين كما جدت على السابقين.
والزمخشري في أساسه قد استوعب لفظ السنة وتقلباتها، فقال: سن سنة حسنة ولزم سنن الطريق: قصده. وسنن الفرس وهو عدوه إقبالا وإدبارًا في نشاط وزعل، وسن إبله: أحسن رعيها وصقلها، كما يسن السيف. وسن الأمير رعيته: أحسن سياستها، وفرس مسنونة: متعهدة بحسن القيام عليها.. وجاء بالحديث على سننه على وجهه… واستنت الطرق: وضحت كل مذهب، ومنه قول القائل:
ولو شهدت مقامي بالحسام على حد المسناة حيث استنت الطرق
واستن به الهوى حيث أراد: ذهب به كل مذهب، ومنه قول القائل:
دعاني إلى ما يشتهي فأجبته وأصبح بي يستن حيث يريد()
والذي يتأمل نص الزمخشري في الأساس يجد أن المادة وتقلباتها تدل على بعض صفات السنن وخصائصها: من الوضوح، والثبات، والشمول، والعموم، والتعهد، وحسن المتابعة، والرعاية، والتكرار، وهذا من الملامح العامة للسنة الربانية، وأما الراغب في مفرداته فيقول: سنة الوجه: طريقته، وسنة النبي : طريقته التي كان يتحراها. وسنة الله تعالى: قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته.. وقوله تعالى: "مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ"() قيل متغير، وقوله تعالى: " لم يتنسنه" () معناه {لم يتغير}()
وكلام الراغب الأصفهاني رغم اشتراكه مع جزء ليس باليسير من كلام الفيروز آبادي والزمخشري، إلا أنه ألمح إلى صفة من صفات السنن وهي الثبات وعدم التغير كما سيتضح ذلك بعد.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى [أن السنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار]. () وكذلك يرى الإمام الرازي في تفسيره أن السنة هي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع(). وقد أبدع صاحب المنار عندما ربط المادة اللغوية لكلمة سنة بالمعنى الدلالي لها عندما قال: «إنها الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، من قولهم: سن الماء إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد»(). وأجاد وأفاد عندما ربط بين كلمة سنة التي نتحدث عنها و(السنة) المدونة؛ وهي فعل الرسول وأقواله وتقريرا ته بقوله: (إن أهل الحق من سلف الأمة إنما سموا بأهل السنة والجماعة لأنهم ساروا في الاهتداء بالإسلام على السنة، وهي الطريقة العملية التي جرى عليها النبي في بيان القرآن كما أمره الله تعالى بقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون)() وتلقاها عنه بالعمل جماعة من الصحابة… والأقوال وحدها لا يتبين بها المراد بيانا قطعيا لا يحتمل التأويل كالأفعال وإن كانت في غاية الجلاء والوضوح، ولذلك قال علي المرتضي -كرم الله تعالى وجهه- لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عندما أرسله لمجادلة الخوارج: احملهم على السنة. فإن مراده بالسنة ما ذكرناه من معناها الموافق للغة لا المعنى الاصطلاحي للمحدثين وسائر علماء الشر ع الذي يشمل الأخبار القولية وغيرها] ().
والخلاصة:أن السنة:(هي القانون الضابط المهيمن، والفعل النافذ الحاكم الذي يجري باطراد وثبات وعموم وشمول،وعدم تبدل أو تحول,مرتبًا على سلوك البشر).
***
مفهوم التمكين في اللغة
نجد أن الكلمة دارت في كتب اللغة على النحو التالي:
(الإقدار على التصرف, والثبات, والهيمنة).يقول الزمخشري في الأساس:(مكنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن, ويقول المصارع لصاحبه: مكني من ظهرك، و أمكنني الأمر فمعناه أمكنني من نفسه, وهو مكين عند السلطان,وهم مكناء عنده وقد مكن له عنده, وهو أمكن من غيره, وضبة مكون بيوض, وقد مكنت وأمكنت وأكل الأعرابي المكن قال:
وَمَكْنُ الْضِّبَابِ طَعَامُ الْعُرَيْبِ ... وَلاَ تَشْتَهِيهِ نُفُوسُ الْعَجَمْ()
ويقول البدوي: أما والركن والباب إني لأحب مكن الضباب, وهذه مكنة الضبة ومكنة الضبة,ومكناتها, ومن المجاز:( أقروا الطير على مكناتها)() استعيرت, من الضباب للطير ثم قيل: الناس على مكنا تهم:على مقارهم)().
والملاحظ من كلام صاحب الأساس أن المادة تدل على الاستقرار, والثبات, سواء كان هذا الثبات حسيا كثبات الضبِّ على مكنته والطير على مكناتها, أو ثباتا معنويا كثبات الرجل في منزلته, وتمكنه من سلطانه, والظاهر كذلك أن الكلمة انتقلت من الاستعمال الحقيقي: (مكن) ثبت في مكانه, واستقر فيه إلى المعنى المجازي: (مكن) عند الناس أي: صار مكينا, ذا مكانة وسلطان, ومنه قوله تعالى في حق يوسف : ( إنك اليوم لدينا مكين أمين)(), ويقول الفيروز آبادي في بصائره:(المكان: الموضع, والجمع أمكنة وأماكن. والمكانة: المنزلة عند الملك, ومكن ككرم. وتمكن وهو مكين والجمع مكناء, ومكّنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن وأمكنني الأمر:معناه أمكنني من نفسه.)()، ويقول في القاموس المحيط عند تناوله لهذه المادة: (المَكِن, ككتف بيض الضبّة والجرادة, ونحوها مكِنت كسمع فهي مَكُون, وفي الحديث أقروا الطير على مكُِناتها بكسر الكاف وضمها أي:بيضها, والمكانة التؤدة كالمكينة, والمنزلة عند الملك, ومكن ككرم وتمكن فهو مكين, والجمع مكناء ..ومكنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن)(), والملاحظ من كلام الفيروز آبادي أن المادة تدل على الإقدا ر على التصرف والهيمنة والاستقرار ومنه مكنة الضب ومكنة الطير.وقالوا( أمكن فلانا من الشيء أقدره عليه وجعله في قبضته, ومكن فلانا في الشيء تمكينا جعله متسلطا عليه يتصرف فيه وتنطلق يده فيه, والمكين المستقر الثابت في موضعه لا ينزل, أو الذي يعظم أمره عند السلطان, ويرتفع قدره)(). ومكن مكانة فهو مكين,أي ثبت واستقر فهو ثابت ومستقر, وقوله تعالى: (ثم جعلناه في قرار مكين)() أي ثابت محفوظ يحفظ فيه وهو الرحم, ومكّن له في الشيء جعل له عليه سلطانا وقدرة قال تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)(), ومكن الشيء ثبته, قال تعالى: ( أولم نمكن لهم حرما آمنا)() أي: حرما ثابت الحرمة، محفوظ المكانة, وأمكنه من عدوه: نصره عليه، وحكّمه فيه، قال تعالى: ( فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم)()() وعلى ذلك فالتمكين لدين الله في الأرض هو:(هيمنة منهاج الله على ما عداه من المناهج في الأرض والقدرة التامة لعباد الله على التصرف في أرض الله حسب منهاجه حسا ومعنى بأن تصطبغ الحياة بصبغة الإسلام كما أراد الله)
مفهوم سنة التمكين:
وإذا كانت كلمة سنة تدل على العادة المتبعة والطريقة الماضية التي تمضي باطراد
وثبات، وكان ورود الكلمة في القرآن أكسبها بعض الصفات بالإضافة إلى دلالتها اللغوية, وذلك مثل (العموم والشمول وعدم التغير أو التبدل والتحول, ومثل عدم المحاباة والاستثناء) كذلك, مما يؤيده الواقع ويدعمه الاستقراء, وكلمة التمكين تدل على هذه المعطيات من (التسلط والهيمنة والإقدار على التصرف أو الاستقرار وعدم الاضطراب)؛ فإن المراد من كلمة (سنة التمكين):( قانون الله المطرد في خلقه، ونظامه الحاكم المهيمن في أفعالهم، الذي إذا اتبعه عباده أقدرهم على التصرف في أرضه، والهيمنة عليها، وجعل لهم مكانة مكينة في كيفية التعامل مع مفرداتها وإحسان توظيفها).
المبحث الثاني:
دوران كلمة التمكين في القرآن الكريم
وردت كلمة التمكين في القرآن الكريم بتصريفات متعددة ودارت في القرآن ثماني عشرة مرة :
1- فوردت في سورة الأنعام في قوله تعالى:(ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين)(), يقول الإمام الطبري: ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي, الجاحدون نبوتك, كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون - وهم الأمم - الذين وطأت لهم البلاد والأرض توطئة لم أوطئها لكم وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم)() :( أعطيناهم ما لم نعطكم, ....أمطرت السماء فأخرجت لهم الأشجار ثمارها وأعطتهم الأرض ريع نباتها وجابوا صخور جبالها, ودرت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أبر بارئهم وبغوا حتى حق عليهم قولي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم, وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرجفة, وبعضهم بالصيحة, وغير ذلك من أنواع العذاب)()
وقد وردت هذه الآية في تنبيه أهل مكة إلى أحوال الأمم الغابرة, والأجيال الماضية التي أرخى الله تعالى لهم حبل النعم, والمعنى:ولقد مكناكم من سكنى الأرض وزرعها,والتصرف فيها وجعلنا لكم أسبابا تعيشون بها وما أقل شكركم فيما صنعت لكم"()
4- ووردت في سورة يوسف في قوله تعالى:(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(), والمعنى: كما مكنا محبة يوسف في قلب العزيز, أو كما مكناه في منزله, وأنجيناه وعطفنا عليه قلب العزيز مكنا له فيها, ليتصرف فيها بالعدل, ولنعلمه من تأويل الأحاديث؛ فإن القصد من إنجائه وتمكينه أن يقيم العدل, ويدبر أمور الناس, ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها, أو تعبير المنامات المبنية على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل, كما فعل لسنيه. والله- تعالى غالب على أمره، لا يرده عنه شيء ولا ينازعه أحد فيما يشاء, أو غالب على أمر يوسف, أراد له أخوته شيئا ولم يكن إلا ما أراد الله تعالى " ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن الأمر كله بيده أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا لطفه )() (وقوله : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } يقول عز وجل : وكما أنقذنا يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله وأخرجناه من الجب بعد أن ألقي فيه فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر كذلك مكنا له في الأرض فجعلناه على خزائنها, وقوله: { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } يقول تعالى ذكره: وكي نعلم يوسف من عبارة الرؤيا مكنا له في الأرض)()
5-ووردت الثانية في قوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين)(),( { فلما كلمه } يقول : فلما كلم الملك يوسف وعرف براءته وعظم أمانته قال له : إنك يا يوسف { لدينا مكين أمين } أي : متمكن مما أردت وعرض لك من حاجة قبلنا لرفعة مكانك ومنزلتك لدينا { أمين } على ما اؤتمنت عليه من شيء)() والمعنى " قال الملك: ائتوني به أجعله خالصا لنفسي فلما أتوا به وشاهد منه الرشد والدهاء قال: إنك اليوم لدينا ذو مكانة ومنزلة)().
12- كما وردت في سورة النور في قوله تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير)().
والآية الكريمة هنا عمدة قضية التمكين، ودرة تاجها، وتكاد تكون هي المحور الأساس الذي تدور عليه السورة كلها، والمعلم الرئيس الذي تنسج حوله خيوطها،لما اشتملت عليه من آداب وأحكام بداية من الآداب التي تخص الفرد المسلم: من إيضاح حد الزاني والزانية، وحكم زواجهما، والأمر بغض البصر للمؤمن والمؤمنة، وهي آداب فردية تؤصل في نفس الإنسان، ومرورا بالآداب والأخلاق التي تنظم علاقة الإنسان بالإنسان داخل الأسرة الواحدة، كالحديث عن الملاعنة، واستئذان الذين لم يبلغوا الحلم وما ملكت الأيمان، ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر, وحين يضع المرء ثيابه من الظهيرة, ومن بعد صلاة العشاء، وانتهاء بالحديث عن الآداب والسلوكيات التي تخص المجتمع بصفة عامة: كشهود إقامة الحدود؛ ليرسخ في اللاشعور عنده كره سببه، والنفور منه، والبعد عنه، والحديث عن خطر إشاعة الفاحشة، وضرر هذا المرض الوبيل، والداء الذر يع الذي يفتك بالمجتمعات ويهيض العلاقات، والحديث عن إقامة الروابط المتينة، والأواصر القوية بين لبنات هذا البناء وأفراد هذا المجتمع بأمر أولي الفضل منهم والسعة ألا يقصروا في الإنفاق على ذوي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا؛ رجاء أن يغفر الله لهم, إلى غير ذلك من أخلاقيات المجتمع وسلوكياته التي تنشئ حضارة قرآنية، وتمكن للمجتمع الذي تسود فيه تمكينا ماديا ومعنويا على حد سواء .
يقول الإمام النسفي – رحمه الله –: (وعدهم الله تعالى أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة وأن يمكن الدين الذي ارتضى لهم وهو دين الإسلام وتمكينه: تثبيته وتعضيده وأن يؤمن سربهم، ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه وذلك أن الرسول وأصحابه كانوا بمكة عشر سنين، ولما هاجروا كانوا في المدينة يصبحون في السلاح ويمسون، فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام : لا تغبُرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديد ة, فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا )().
13- كما وردت اللفظة في سورة القصص في قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)() .
والآيات الكريمة ترصد مشهدا من مشاهد الصراع بين الحق الباطل، يستمر ئ فيها الباطل بسلطانه، فيفرق الناس طوائف وشيعا، يذبِّح من يذبِّح، ويستحيي منهم من يستحيي؛ إفسادا في الأرض وتسلطا، وإذا كانت هذه إرادة أهل الباطل: فرعون وجنده فهناك إرادة الملك الذي يريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض يمكن لهم ويجعل لهم قرارا ومكانا ويقدرهم على التصرف في شؤونها والانتفاع بعطائها.
14- ووردت اللفظة كذلك في سورة الأحقا ف في قوله تعالى:( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون)().
والآية الكريمة واردة في الحديث عن سنة الصراع بين الحق والباطل، تتناول مواقف أقوام أتتهم رسلهم بالبينات، وأرشدهم نبيهم هود إلى عدم عبادة غير الله، وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه فما كان جوابهم إلا أن قالوا : أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا فأتنا بالعذاب الذي تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما علم الأمور كلها بيد الله ولكني أراكم قوما تجهلون وبعد الإنذار والإعذار أرسل الله إليهم عاجل نقمه فلما راوه عارضا مستقبل زروعهم وأرضهم ظنوه مطرا ونسوا ما قدمت أيديهم، ومضت سنة الله التي لا تتخلف:( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين)().
ويأتي إرشاد من بعدهم أهل مكة وأمثالهم بأن الله مكنهم فيما مكن فيه من قبلهم، وأنعم عليهم بنعمه، ومنَّ عليهم بِمَننه سمعا وأبصارا وأفئدة فعطلوها وأوقفوا عطاءها، فما أغنت عنهم هذه النعم المعطلة من الله شيئا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون.
15- ووردت اللفظة كذلك في سورة المرسلات في قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدنا فنعم القادرون)().
والآيات الكريمة تتحدث عن نعمة من نعم الله على الإنسان، وهي جعله في مرحلة من مراحل تخلقه في مكان آمن مكين.
16- ووردت اللفظة في سورة التكوير في قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين )().
والآيات تتحدث عن وصف جبريل وأنه ذو مكانة عند الملأ الأعلى .
خلاصة واستنتاج: يلاحظ من خلال الحصر لورود كلمة التمكين في القرآن الكريم عدد من الأمور منها ما يلي:
( نمكن)، وإلى المفعول: (مكني) .
3- أنها وردت في الفترة المكية والفترة المدنية.
المبحث الثالث
مرادفات التمكين وورودها في القرآن الكريم
وردت ألفاظ مقاربة لمعنى التمكين في القرآن الكريم، وورودها على النحو التالي:
ب-أن القلة والكثرة ليست هي المقياس في الغلب:( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)().
ج- أن من كتب الله له النصر فلا يغلب: ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم)().
د- أن أمر الله ماض لا يرده شيء، ولا يعجزه أحد: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)().
3- الفوز: ورد الفوز في القرآن تسعا وعشرين مرة، وكان ورودها بصيغة الماضي، والمضارع، والمصدر، واسم الفاعل.
وحملت اللفظة دلالات متعددة منها:
ا – أن الفوز الحقيقي في زحزحة المرء عن النار إلى الجنة.
ب – أن الفائز الحقيقي هو من يطيع الله ورسوله.
ج – أن الفوز العظيم يكون بالخلود في الجنة ورضا الله –تعالى- عنه.
د – أن الفائز من يصرف الله عنه عذابه.
هـ - أن رحمة الله- تعالى- هي الفوز العظيم.
إلى غير ذلك من المعاني التي تحصرها لفظة الفوز في القرآن الكريم وتحتاج إلى دراسة مفردة.
ا – أن الله يستخلف من يشاء من عباده ويمكن لمن حقق شروطا معينة منها الإيمان والعمل الصالح.
ب – ووردت على لسان نبي الله هود، وهو يهدد قومه بأنهم إن تولوا استخلف قوما غيرهم ولا يضرونه شيئا؛ فإن الله على كل شيء حفيظ.
ج – ووردت في حديث نبي الله موسى وهو يعظ قومه ويذكرهم بسنة الله في الاستخلاف، وأنه تعالى قد يستخلفهم بعد إهلاك عدوهم فينظر كيف يعملون.
5 – الهيمنة: وردت مرة واحدة في سورة المائدة في قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)()
6 – الإرث: ورد لفظ الإرث في القرآن مرات متعددة بألفاظ متباينة, وورد بالمعني الذي يدل على القريب من التمكين سبع عشرة مرة, من ذلك قوله تعالى: (وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)(), وورد في تعالى:(إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)(),وورد في قوله تعالى(إن الأرض يرثها عبادي الصالحون)(), وفي قوله تعالى: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)(), وفي قوله تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها)(), وقوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)(), وقوله تعالى: (كذلك وأورثناها قوما آخرين)(), وقوله تعالى: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل)(), وقوله تعالى: (إن الأرض يورثها من يشاء من عباده)().
الفصل الثاني: أسباب التمكين
للتمكين أسبابه التي يتوصل من خلالها إليه ويتوسل باستخدامها إلى إدراك خيره والنفع ببره وقد عني القرآن بذكر هذه الأسباب والحديث عنها عناية واضحة, وقبل الحديث عن هذه الأسباب نتعرف السبب في اللغة فنقول: عرف العلماء السبب في اللغة بأنه:( اسم لما يتوصل به إلى المقصود, وفي الشريعة: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه, والسبب التام هو الذي يوجد المسبب بوجوده فقط)() ( السبب عند الأصوليين ما يضاف إليه الحكم لتعلق الحكم به من حيث إنه معرف للحكم أو غير معرف له, وقيل: ما ظهر الحكم لأجله, هبه شرطا, أو دليلا, أو علة)(), وأسباب التمكين التي ذكرها القرآن يمكن أن نحصرها في الآتي:
المبحث الأول: الحفظ والأمانة
الشخص الذي يمن الله عليه بالتمكين ليس شخصا هملا، ولا إنسانا سبهللى، بل هو فرد مربى تربية خاصة على قيم ومبادئ يستطيع من خلالها أن يكون أهلا للتمكين الذي سماه الله (رحمة) في قوله: (نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)()، فرد جمع من الخلال والصفات ما يستأهل به أن يكون خليفة الله في أرضه، مكينا فيها مهيمنا عليها، يتصرف فيها بوحي السماء، ويمضي عليها بتشريع إلهي لا بقانون وضعي، يصلح عطبها، ويقوم عوجها باسم المنهاج الذي استأمنه الله- تعالى- عليه.
ومن خلال عرض النماذج التي مكن الله لها في الأرض نجد من أساسيات هذه الأسباب: حفظ هؤلاء الأفراد وأمانتهم وذلك ظاهر جلي من خلال حديث القرآن عن نبي الله يوسف، كقوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المصلحين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون)() فالحفظ الذي يراد به الأمانة هنا أساس من أسس التمكين وسبب من أسبابه, والذي جعل ملك مصر يثق في يوسف () ، ويخلع عليه خاتمه وسريره وتاجه كما ذكر المفسرون؛ ليس إلا هذه الصفات التي تحلى بها يوسف () ، والتي جاء في مقدمتها: (إني حفيظ)، يقول ابن كثير عند تناوله لهذه الآيات: (قال الملك ائتوني به أجعله من خاصتي وأهل مشورتي (فلما كلمه) أي: خاطبه الملك, وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من َخلق وخُلُق وكمال قال:( إنك اليوم لدينا مكين أمين) , أي: إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة، فقال يوسف () :اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم, أي : خازن, أمين عليم ذو علم وبصيرة بما يتولاه ...أو حفيظ لما استودعتني, عليم بسني الجدب ... وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس, وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض ليتصرف فيها على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له )().
هذا وقد ذكر المفسرون تأويلات متعددة لقوله: (إني حفيظ عليم), فقالوا: حفيظ لما استودعتني عليم بسني المجاعة , أو حافظ للحساب عالم بالألسن, ورجح الطبري الأول لأنه عقيب قوله: (اجعلني على خزائن الأرض) ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض فكان إعلامه بأن عنده خبرة في ذلك وكفايته إياه أشبه من إعلامه حفظه الحساب ومعرفته بالألسن. ويرى الإمام النسفي – رحمه الله – أن نبي الله يوسف () (وصف نفسه بالأمانة والكفاية لأنهما طلبة الملوك ممن يولونه, وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله – تعالى – وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الله الأنبياء إلى العباد ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلبه ابتغاء مرضاة وجه الله لا لحب الملك والدنيا)() ويفسر الإمام البيضاوي طلب يوسف () للوزارة بأنه (لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده وتجل عوائده, وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد كافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به )(). ونحن عندما نقف مع نبي الله يوسف () باعتباره نموذجا من نماذج التمكين نلحظ عدة أمور:
( الإحساس بالإيحاء بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكون فيها النصر والتمكين مما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ()
لقد جمعت شخصية نبي الله يوسف () عددا من الخلال جعلتها تجتاز المحنة التي مر بها والابتلاءات التي شاهدتها ( في ظل التربية الربانية لهذا العبد الصالح الذي يعد ليمكن له في الأرض، وليقوم بالدعوة إلى الله وهو ممكن له في الأرض، وقابض على مقاليد الأمور، ومركز التموين في الشرق الأوسط، وأول ملامح هذه المرحلة الاعتزاز بالله - تعالى – والاطمئنان إليه، والثقة به، والتجرد له، والتعري من كل قيم الأرض، والتحرر من كل أوهامها، واستصغار شأن القوى الممكنة فيها، وهوان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله سبحانه وتعالى.)()
المبحث الثاني: العلم
العلم سبب أصيل من أسباب التمكين, وقد ورد العلم في القرآن الكريم مرات متعددة وفي صور تعبيرية شتى, فمرة يرد في صورة يقرن الله تعالى فيها بين نفسه وبين الملائكة وأولي العلم في شهادة الحق، كقوله تعالى:( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)()،وأنكر الله –تعالى – أن تكون هناك تسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب)() ، وجعله مؤهلا من مؤهلات الاصطفاء والقيادة فقال - تعالى- في شأن طالوت: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم)()،وقال على لسان سليمان- عليه السلام- (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين)()،ووصف به يوسف الذي مكن في الأرض أيما تمكين: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين)()،ذلك أن العلم أساس من أسس التمكين وركيزة من ركائزه, التي بدونها لا يقوم, وبغيرها لا ينهض ولا يستقيم , ولأمر ما كانت أول كلمة نزلت من القرآن: (اقرأ) ؛ إن القراءة أساس العلم والعلم أساس العمل , وعمل بلا علم إنما هو ضرب من التخبط, وعلم بلا عمل إنما هو لون من ألوان الترف الفكري والسرف الثقافي الذي لا يقيم حضارة, ولا ينشئ خلافة, ولا يتيح لأمة من الأمم أن تمسك بزمام الريادة والسيادة.
والحضارة التي يبتغيها المسلم لا بد أن تؤسس على العلم؛ لأنه هو الذي يرسي أساسها، ويعلي بناءها، ويجعلها شامخة شموخ الصروح الشاهقة, لا تهتز لشبهات المضلين, ولا تتراجع أمام تصور الضعاف المنهزمين, ولا شك أن (لأولية نزول كلمة(اقرأ) دلالتها وإيحاءها فهي توحي بفضل العلم وتقديمه على غيره فبه تبدأ الأمور وتفتتح الأعمال، فقد أمرت الآيات بالقراءة مرتين : (اقرأ باسم ربك الذي خلق اقرأ وربك الأكرم), والقراءة هي باب العلم ومفتاحه ....إن العلم مقدم على العمل؛ لأنه هو الذي يصحح العمل وبرشد إلى شروطه وأركانه, ولهذا قيل: العلم بغير عمل جنون, والعمل بدون علم لا يكون, ولكننا نلاحظ أن القراءة التي أمر بها القرآن في آياته الأولى ليست مجرد قراءة، إنما هي قراءة باسم الله، باسم ربنا الخالق، ومعنى أنها باسمه سبحانه أنها بإذنه وبأمره، وأنها موجهة إليه، موصولة به فليست باسم صنم يعبد، ولا طاغوت يطاع، ولا بشر يعظم من دون الله، فهي قراءة مؤمنة بالله خالصة له مقيدة بأحكامه، وهذا يوحي بأن العلم في الإسلام إنما هو في حضانة الإيمان، فالعلاقة بينهما علاقة التواصل والتلاحم لا التقاطع والتنافر، علاقة التكامل لا علاقة التعارض)().
والعلم الذي يؤسس التمكين هو العلم الذي ينشأ في رحاب الإيمان يهتدي بهد يه، ويسير على دربه، وينسج على منواله، ويتبنى فكره وقضاياه، فيكون تمكينا حضاريا إيمانيا، لا تمكينا لشهوة من الشهوات، ولا لنزوة عابرة من النزوات فليس كل علو في الأرض وملك لمفاتيحها يصبح تمكينا إنما هو علو في الأرض، كما فرق الدستور الإلهي بين التمكين النابع من منهج الحق والعلو الجاثم على صدور الخلق, ومن يتأمل قصة فرعون موسى وتعبيرات القرآن عن ملكه يدرك هذا بجلاء ووضوح,إن العلو في الأرض لمحة من لمحات الزمن التي غاب فيها جيل التمكين الحقيقي عن ممارسة دوره وعمارة أرضه باسم ربه الذي أمره بذلك، وكلفه به,والناظر في صور التمكين التي رصدها القرآن كتمكين يوسف () في أرض مصر, وتمكين ذي القرنين في المشارق والمغارب, وتمكين داود وسليمان يدرك تمام الإدراك أن التمكين الحقيقي هو الذي يقيم شرع الله في أرضه، وينطلق في أفكاره وتصوراته من خلاله فيعطي باسم الله ويمنع باسم الله، ويحتكم لأمر الله، ولو كان الحكم على نفسه أو ذوي قرباه وما موقف سليمان () وسماعه لبيان الهدهد بل نزوله على رأيه منا ببعيد.
إن التمكين الحقيقي لا يكون ولن يكون أبدا إلا على أساس العلم الذي يرتبط بالسماء فيرتفع بأهله, يمكنهم من الأرض يعمرونها باسم الله رب العالمين, ولا نعني بذلك العلم العلم الشرعي الذي يعنى بالكتاب والسنة وعلومهما؛ إنما نعني بالعلم معناه اللغوي العام الذي يستوعب في طريقه كل معرفة ويشمل بين جنباته كل إدراك, وإرشاد القرآن الكريم إلى أهمية العلم بمعناه التطبيقي غير خاف على متأمل, والذي يقرأ قوله – تعالى –: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)() الذي يقرأ هذه الآية الكريمة يجد أنها( جاءت بعد أن ذكر الله –سبحانه- بعض آياته في خلقه في السماء والماء والنبات والجبال ومن الناس والدواب والأنعام مما يوحي بأن العلماء المذكورين هم علماء الطبيعة والكون والأرض والنبات والإنسان والحيوان, اقرأ قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور " () وقال تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين " () والأوفق بـ ( العالمين ) هنا أنهم العلماء بالظواهر الكونية في الفلك والأرض، والعلماء باختلاف الألسنة والألوان, أي: علماء الكون والإنسان. وقال – تعالى- " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون" ()، فالأقرب أن القوم الذين يعلمون هنا هم علماء الفلك والطبيعة الجوية، فهم أقدر الناس على معرفة أسرار الله – تعالى – واكتشاف سننه في جعل النجوم للاهتداء ومن هنا نرى أن العلم الذي أشاد به القرآن ليس مقصورا على علم الدين وحده وإن كان علم الدين له الصدارة والأولوية؛ لأنه العلم الذي يتعلق بالمقاصد والغايات وعلوم الدنيا تتعلق بالوسائل والآلات ولكنها مهمة أيضا لنماء الحياة وبقائها كما يريد الله – تعالى -)()؛ ذلك أن علم القيم فقط لا يكفي لإنشاء حضارة و إعمار الأرض وإثارة خيرها والانتفاع بمكنونها، بل لابد من علم المادة أو العلم التقني وعلم القيم أو المثل إن صح التعبير, فمن العلم الوظيفي التطبيقي وعلم الكون تتكون الحضارة التي تحلق بهما معا أو تمشي عليهما معا فهما جناحان لأي حضارة تريد أن تتمكن وينتفع بها أهل الأرض ليرضى بها رب الأرض والسماء وحضارة تقوم على واحد منهما فقط حضارة عرجاء تمضي بقدم واحدة لا يستمر سيرها طويلا، شوهاء, لن تحلق في السماء وقتا كبيرا؛ لأنها تمضي بنصف طاقة، وتمشي ببعض قوة, أما حضارة التمكين التي تؤسس على العلم بمعناه الشامل، أو الذي يؤسسها علم صادق فهي حضارة التمكين التي أرادها الله – تعالى- ومن أجلها استخلف خلقه في أرضه؛ ليعمروها بمنهاجه، فتسعد البشرية كلها وتحيى في سلام لا يكدره حرب، ونماء لا يوقفه زور ولا غش، ويومئذ: ( يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)() .
ومن يطالع حديث القرآن عن الأنبياء في هذه الزاوية يجد تزاوجا عجيبا بين تقدمهم في عالم القيم وعالم المادة على حد سواء، وهؤلاء الأنبياء وأولئك المرسلون هم قدوة من يسعى إلى التمكين بدءا من أبي البشرية آدم () ونهاية بخاتم الأنبياء محمد .
( فآدم() إنما فضله الله - تعالى- على الملائكة، وأظهر تفوقه عليهم، وأنه المرشح للخلافة في الأرض بسبب العلم الذي آتاه الله إياه، ولم يعلمه الملائكة، ولهذا لما سألهم عن أسماء الأشياء- والسؤال عن الاسم يتضمن السؤال عن المسمى وخواصه ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)().
وكذلك استطاع آدم أن يتطهر من ذنبه – حين أكل من الشجرة المنهي عنها بما تعلمه من الكلمات التي تلقاها من ربه: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)().
ونوح شيخ المرسلين نجد أثر العلم في حسن دعوته لقومه, وجداله لهم, حتى أفحمهم وقالوا له: ( يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون)().
وإبراهيم خليل الرحمن آتاه الله الحجة فحاج نمروذا فأسكته وحاج قومه فغلبهم وقال لأبيه: (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا)(), وقال الله – تعالى – في شأنه: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)(), وقال الله تعالى في موسى:( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين)(), ولما أعلم الله موسى أن هناك رجلا عنده من العلم ما ليس عنده سافر إليه سفرا طويلا، لقي فيه النصب والعناء, وطلب إليه أن يصحبه بل أن يتبعه ليتعلم منه مما علمه الله , وهو موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه, فاشترط عليه أن يصبر على ما يراه منه ولا يبادره بالسؤال حتى يبين له, وقبل موسى هذا الشرط( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألن عن شيء حتى أحدث لك منه ذكر)(), ونجد علم سليمان يتجلى في فهم كلام النملة مع النمل وفي كلام الهدهد الذي أدل عليه بعلمه وقال له: (أحطت بما لم تحط به)(), وفي قصة سليمان مع ملكة سبأ نجد أن الذي أحضر عرشها من اليمن إلى الشام قبل أن يرتد إليه طرفه إنما هو (الذي عنده علم من الكتاب)(), كما امتن الله على داود بتعليمه صناعة الدروع (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)(), وفي قصة طالوت بين الله - تعالى – أنه اختاره لزعامة القوم وقيادتهم بسبب مؤهلاتهم العلمية والمادية ( قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم)(), وقال عن عيسى() :( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)(), وقال عن خاتم رسله : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)()().
والمتأمل في هذه الآيات التي عنيت بذكر العلم في حياة الأنبياء- عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام- يجد أنها جمعت بين جانبي العلم بشقيه الشرعي الذي هو بمثابة المنهاج الهادي والدليل المرشد والدستور العاصم من الزيغ والهوى وبين العلم التقني أو التوظيفي الذي يمثل عماد نهضة الأمم وأساس رقيها وحضارتها؛ فالذي عنده علم من الكتاب في قصة سليمان مع ملكة سبأ كان جديرا ومؤهلا لنقل عرش بلقيس وقد كان فقد نقل هذا العرش بما يحويه قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه وما ذلك إلا لعلمه العلم التقني الذي تطوى به المسافات وتخترق الحواجز والعقبات وعلم داود () كان علم صناعة الدروع، وليس شيء أكثر حماية للأمم والحضارات من صنع السلاح، والواقع المعيش الذي يكتوي المسلمون بناره ويصطلون بشرره ليس إلا لتخلفهم في ميدان صنع السلاح وحماية النفس, في الوقت الذي تتميز فيه دول نبتت على الطوى لكنها تعنى بسلاحها فصارت لها كلمة في الميزان الدولي وأمة الإسلام التي نزل فيها ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)() لا تعرف عن الحديد وخواصه والانتفاع به شيئا يسمن أو يغني من جوع، والأمة التي نزل فيها (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)() لا تعي في هذا الميدان شيئا ذا بال.
وطالوت ومؤهلاته للزعامة ليست فقط البنيان الفارع والجسم المتين بل العلم الذي زاده الله فيه بسطة وسعة ووفرة , إن هذا الجانب من الجوانب المؤلمة في حياة المسلمين ومن الجراح التي كثرة الحديث عنها ينكأها بالألم ويثيرها بالأحزان والأوجاع، وإذا أردنا أن نتجاوز منطقة الألم لنكون مع الممكنين في الأرض علَّنا نأتسي بهداهم، ونستضيء بسناهم، ونمضي على آثارهم، سنجد يوسف () الذي مكنه الله في أرض مصر, ومصر ما هي خيرا وبركة, وعطاء ووفرة, وغناء وثروة, جوا وبرا وبحرا , أرض خصيبة, ومياه نميرة, ونسمات عليلة, وأفراد طيبون بسطاء, أرض لا تبخل بالعطاء, ونيل لا ينضب من رواء, وزرع وثمار صنوان وغير صنوان, كأنها آية من آيات الله في الأرض, ولو وجدت إخلاصا صادقا, وتوزيعا عادلا ما تعرى فيها فرد, ولا تغرب عنها أحد, ولا هجرها أخلص أبنائها, وما ابتعد عنها أميز نجبائها.
لقد مكن الله يوسف () في أرض مصر على أساس علمه إنه ( لما بلغ أشده آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث تعبير الرؤى وكان هذا العلم سببا في إخراجه من السجن وكذلك مؤهلا لتوليه خزائن الأرض (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)(), فالحفظ يمثل العنصر الأخلاقي, والعلم يمثل العنصر المعرفي, وكلاهما يكمل الآخر, وكلاهما ضروري لكل من يتولى منصبا قياديا, ولقد برز يوسف() في علم التخطيط الزراعي والاقتصادي في أيام الأزمات والمجاعات, وضع خطة لخمسة عشر عاما, وتولى الإشراف على تنفيذها بنفسه فأنقذ مصر وما حولها من محنة كادت تودي بها)(), ومن نظر في قصة يوسف وتكرار كلمة العلم فيها يلفت نظره هذا التكرار, فقد ورد العلم في قصة يوسف () فقط إحدى وعشرين مرة عدا ذكر ما يقابله, ومن هذه الآيات قوله تعالى- : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )() , وقوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)() , وهنا نلاحظ في هذه الآية الترابط بين التمكين والعلم بل التلازم مكنا ولنعلمه, وقوله تعالى: ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين)(), وقوله: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)(), وقوله : (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون)(), ونلحظ هنا رد هذا العلم إلى الله- تعالى – بل لعلك تلمح معي هذا الملمح في التعبير عن ذلك بقول يوسف () :(ربي) كأن هذا الذي بلغه التمكين ليس أي علم بل علم مسند إلى ربه سبحانه , وقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(), وقوله تعالى: (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)(), وقوله تعالى: (يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون)(), فالذي أهّل يوسف () لحل هذه المعضلة ما كان لديه من علم والذي سهَّل له تعبير الرؤيا ما كان يدركه من فهم ووعي وقوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)(), وقوله: ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)(), وقوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)(), فالذي أهله لحمل هذا العبء المبهظ الثقيل جمعه بين القيمة والمثل (حفيظ) وبين المعرفة والتوظيف (عليم), وقوله تعالى: (وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون)() أي: (لصاحب علم لتعليمنا إياه لا بحوله وقوته أدركه بل بفضل الله وتعليمه إياه)(), وقوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين)(), وقوله تعالى: ( قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون)()، وقوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين)(), وقوله ) :عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)(),وقوله تعالى: (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)()، وقوله تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)(), وقوله: (قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)(), وقوله:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين)(), والناظر يلاحظ بجلاء لا يشوبه كدر، وصفاء لا يغبشه غيم مدى ارتباط العلم بكونه من لدن الله حتى تؤسس عليه حضارة ويبنى عليه ملك وينشأ من خلاله تمكين يقيم شرع الله في أرضه.
وقول الملك ليوسف () (إنك اليوم لدينا مكين أمين)(), ليست من فراغ بل لما رآه في هذه الشخصية المتفردة علما وخلقا وديانة وسلوكا، (وترتب هذا القول على تكليمه إياه دال على أن يوسف () كلم الملك كلام حكيم أديب، فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلا لثقته وتقريبه منه، وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال؛ لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة، إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير، والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة؛ إذ بالحكمة يؤثر الأفعال ويترك الشهوات الباطلة وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها وهذا التنويه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأنه يقترح عليه ما يرجو من خير فلذلك أجابه بقوله: ( اجعلني على خزائن الأرض) واقتراح يوسف () ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح، ولذلك لم يسأله مالا لنفسه ولا عرضا من مال من متاع الدنيا ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وبلاغها لمحا لها وعلل طلبه ذلك بقوله: (إني حفيظ عليم) المفيد تعليل ما قبلها لوقوع (إن) في صدر الجملة، فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول أحدهما في الناس بله كلتيهما، وهما الحفظ لما يليه والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما وأنه حقيق بهما؛ لأنه متصف بما يفي بواجبهما وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان وصفة العلم المحقق للمكانة وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه، وهذا من قبيل الحسبة، وشبه ابن عطية بمقام يوسف هذا مقام أبي بكر في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين وهو كما ترى تشبيه رشيق إذ كلاهما صدِّيق)() .
إن الإنسان بصفة عامة وصاحب المبدأ إ بصفة خاصة لابد أن يتحلى بالعلم والثقافة التي تؤسس عليها الحضارات وتنشأ على أساسها جوانب التمكين وإذا انتقلنا من نموذج التمكين لدى يوسف () إلى نموذج التمكين لدى ذي القرنين وجدنا أيضا العلم أساسا من أسس التمكين الحضاري لديه واقرأ إن شئت قوله تعالى: ( وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا)(), أي : آتيناه من كل شيء علما أو ما يتوصل به أو يتسبب به إلى ما يريد ( لقد مكن الله له في الأرض فأعطاه سلطانا وطيد الدعائم ويسر له أسباب الحكم والفتح وأسباب البناء والعمران وأسباب السلطان والمتاع وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا في هذه الحياة " فأتبع سببا " ومضى في وجه مما هو ميسر له)() , والعلم هو الأساس الذي سهل لذي القرنين أن يبني السد ويجعل لهؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولا حاجزا بينهم وبين يأجوج ومأجوج, والطريقة التي نفذ بها هذا الحاجز تستدعي النظر ففي ذلك الزمان الغابر الذي لا يعرف الناس فيه بدقة عناصر المواد وخواصها يعرف بعلمه الذي وهبه الله له أن أفضل طريقة لإقامة هذا السد أن يكون أملس حتى لا يرتقى، وصلبا حتى لا ينخرم، ولقد عبر القرآن عن ذلك بقوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا)(), وقل مثل ذلك في فهمه لهؤلاء الذين هم أشبه بالعجماوات التي لا تبين، والذين لا يكادون يفقهون قولا أو لا يكادون يُفقهون قولا, (وقد قرأ الجمهور بفتح الياء والقاف وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر القاف)() , أي: لا يفهمون غيرهم ومع ذلك أوتي هذا الملك الصالح من العلم والفهم ما يستطيع أن يتعامل به مع هؤلاء، ( لقد أعطي الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم وراجعهم وراجعوه فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج)(), وبعد أن فهم كلامهم لما لديه من علم وفهم بدأ يجهز في بناء هذا السد مستعينا بقوتهم العضلية والمادية (ورأى أن أيسر طريقة لإقامة السد هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم , فجمعوا له قطع الحديد وكومها في الفتحة بين الحاجزين فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما " حتى إذا ساوى بين الصدفين " وأصبح الركام بمساواة القمتين " قال انفخوا" على النار لتسخين الحديد " حتى إذا جعله نارا" كله لشدة توهجه واحمراره " قال آتوني أفرغ عليه قطرا" أي:نحاسا مذابا يتخلل الحديد ويختلط فيه الحديد فيزيده صلابة, وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف من مقاومته وصلابته وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله)().
وخلاصة الأمر أن العلم سبب أصيل من أسباب التمكين والعلم الذي نقصده هو العلم بمعناه المطلق الواسع الذي يشمل المعارف الشرعية والمعارف المادية على حد سواء وهذا العلم المادي الذي يؤسس عليه التمكين الحضاري لابد أن يكون في حضانة الإيمان حتى يتوجه بتوجيهه ويمضي على منهاجه يخدم فكرته ويقويها لا ليهدمها ويزيلها وكما رأينا أن إطلالة سريعة على نماذج التمكين التي رصد القرآن الكريم أحوالها تطلعنا على مصداقية هذا الكلام.
المبحث الثالث: الأخذ بالأسباب
من أسباب التمكين التي لا ينهض بغيرها ولا يعتمد على سواها الأخذ بالأسباب فلا يتصور تمكين في الأرض يقوم هكذا ضربة لازب أو خبط عشواء (إن النظام أساس الكون) ولا يتصور عاقل أن حركة من الحركات أو سكنة من السكنات تمضي بدون سبب, ولعلنا نعرض في دراسة مفصلة لسنة الله في الأسباب والمسببات تلك القضية التي يغفلها كثير من المسلمين ويغفلونها في جانب تصورهم للدين وقضاياه خاصة أما في حياتهم المادية فهم أحرص الناس على ممارستها والأخذ بها فالدين الذي جعله الله موقظا للإيمان ومنبها للوجدان وصارخا في النائم الوسنان حتى ينفض غبار النوم عن أجفانه ويتخلى عن رخاوته ومنامه جعله الناس مخدرا للشعوب ومسوفا للأخذ بالأسباب ومن ينظر في هذا القانون الإلهي الكريم والسنة الربانية الثابتة سنة الله في الأسباب والمسببات يجد أن أبعد الناس عنها هم المسلمون الذين هم أولى الناس بها لدعوة كتابهم وسنة نبيهم لهم إلى التفاعل معها والانتفاع بها ولو نظرنا في الآيات التي تتناول بداية الأسباب والمسببات في القرآن الكريم لوجدناها بقدر ليس باليسير وعناية ليست بالعابرة بل إنها بذاتها تحتاج إلى دراسة مفصلة متأنية لقد حفل القرآن بهذه الآيات من مثل قوله تعالى ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)() ومن ينظر في هذه الآية الكريمة يجد أن لفظ الرزق جاء بعد لفظ الدب الذي أتى بصورة المشتق ( اسم الفاعل) كأنها إشارة من الله تعالى إلى أنه لا رزق كاملا حلالا إلا بالسعي في الأرض والدب في جنباتها والسير في مناكبها وأعاليها.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر()
والله تعالى يقول: ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)() ومن يتفكر في هذه الآية كذلك يجد أن الأمر بالمشي هنا ليس فقط في جنبات الأرض بل في مناكبها وقممها العالية حتى ينال أعظم خيراتها وأوفر عطاءاتها, وتلك سمة من سمات المؤمن المجاهد المكافح حياتيا في جنبات الحياة, وجهادا ميدانيا في لقاء العدو.
دنيا المجاهد كلها محن لصهر رجالها
الشوك ملء سهولها والورد فوق هضابها
ومن الآيات الآمرة بالأخذ بالأسباب في القرآن الكريم قوله تعالى في حق مريم البتول: ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)() ونلحظ من الآيات الكريمة ذلك الجو المفعم بالإعجاز من خلق خلية واحدة بدون أب, وهي إحدى فروع الخلق التي أعجز الله- تعالى- بها الناس فقد خلق الله- تعالى- خلقا بدون أب ولا أم وهو أبو البشرية آدم, وخلق خلقا بدون أم وهي حواء, وخلق خلقا بدون أب وهو عيسى, وخلق باقي البشرية بأب وأم حتى تكتمل الصورة العقلية التي لا يمكن أن يكون هناك غيرها, ولعل ميلاد عيسى من أعجب الصور التي وقعت بما يصور للعقل الجو الإعجازي الذي حدثت فيه تلك المعجزة ( إننا إذا تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا وإنشائه على هذه الصورة فإن حادث ولادة عيسى يكون أعجب ما شهد ته البشرية في تاريخها كله ويكون حادثا نافذا لا نظير له من قبله ولا من بعده والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم, وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز هذه العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب, على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض ليشهدها البشر, ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها البشرية إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان. لقد جرت بسنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة هي الوحيدة ونسوا الحادث الأول حادث وجود الإنسان؛ لأنه خارج عن القياس, فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة ,وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها, ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله وأن ينفذ الناموس الذي اختاره وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة وعدم احتباسها داخل النواميس)() .
ومن ينظر في جو الآيات وسياقها يجد – بحق – أنها تحمل جو الإعجاز الكامل ومع ذلك ففي هذه الظروف التي تعيشها مريم – عليها السلام- من نفسية وجسدية يأمرها الله بأن تهز إليها جذع النخلة, ولك أن تتابع بعقلك هذه الصورة, امرأة بضعفها الجسدي المعروف وهي في حال مخاض فتزداد ضعفا على ضعف وفي جو نفسي صعب في الغاية وشديد إلى النهاية حتى إنها تقول معبرة عن هذا الظرف النفسي الشديد ( ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا)()؛ لأنها العذراء التي لم يمسسها بشر والبتول التي لم تختلط بإنسان , وفي تلك الظروف التي يتوقع أن يقدم لها الطعام تقديما لتكون في غاية الراحة يأمرها الله أن تسعى لتنال رزقها، وتناله عن طريق هز النخلة, ذلك الذي لا يقوى عليه إلا الأشداء من الرجال, وذلك ليرسي الله في نفوس الناس قيمة الأخذ بالأسباب التي لا تستمر حضارة بدونها ولا يقوم تمكين بسواها؛ لذلك قالوا:
ألم تر أن الله قال لمريـــم وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أدناه لها من غير هزة إليها ولكن كل شيء له سبــب()
ذلك ليرسخ في أذهان الناس أن كل نتيجة لابد لها من مقدمة وكل ثمرة لابد لها من غراس حتى تنمو حركة الحياة ويستمر عطاء الإنسان في هذه الأرض التي سيكون خليفة عليها من قبل الله .
ولا تتوقف الدعوة للأخذ بالأسباب لإقامة حضارة تنفع الإنسان وتمكين يعود عليه بالأمن والأمان عند نصوص الكتاب الكريم وإن كان في ذلك غنية وكفاية إنما تستمر الدعوة أيضا من خلال سنة النبي إذ يغرس في نفوس أصحابه هذه القضية المحورية إذ يقول ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتعود بطانا)() ففي الوقت الذي يعلم فيه الرسول الصحابة أن الطير تتوكل على الله حق التوكل يرشدهم إلى أنها تغدو وتروح وهي إشارة مؤكدة لقيمة السعي والعودة والغدو والرواح فيقول:( تغدو...وتعود..) ,ووصيته() من أتى يسأله بأن يذهب فيحتطب بعد أن زايد على حلسه وقعبه واشترى بهما قدوما وأمره أن يذهب فلا يراه إلا بعد السعي والكسب وعندما عاد الرجل فرحا مسرورا بالرزق الحلال قال له(): ( أليس هذا خيراً من أن يسأل أحدكم الناس أعطوه أو منعوه)(). ومن يسأله : (يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل) يقول له (): ( اعقلها وتوكل)(). موضحا له() أن عقلها والحيطة في الحفاظ عليها لا ينافي التوكل على الله, بل يمارس() ذلك عمليا عندما تراه ينظم جيشه ويصفه ويطمئن على أفراده وجنوده ويجعل ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلبا وبعد فراغه من هذا التقسيم والأخذ بالأسباب على أعلى درجة من درجات الإتقان يتوجه إلى الله -تعالى- بالدعاء ويلح فيه إلحاحا يحمل من حوله على الشفقة عليه () من شدة دعائه حتى يقول له أبو بكر( ض): ( هون عليك يا رسول الله فإن الله منجز لك ما وعد)().
ويمكننا القول: إن قضية الأخذ بالأسباب قضية أساسية في قيام أي حضارة, وتأسيس أي تمكين, بل في حفاظ الناس على حياتهم على ما يريدون يتطلب ذلك منهم سعيا في سبيله, وجهدا في استمراره, حتى إن أصحاب المذاهب الباطلة والأفكار المعوجة يفهمون أن باطلهم هذا لا يستمر إلا بالسعي من أجله والمجاهدة في سبيله وإن كان سبيله سبيل الشيطان.
أهل الباطل والأخذ بالأسباب:
إن الناظر في مواقف المشركين في عصر النبوة يرى أنهم يأخذون بهذه القاعدة التي عرفوا نتائجها من خلال تجارب الدنيا وواقع الحياة, فيأتلفون رغبة في الغلب على مخالفيهم, وهذا ما صوره القرآن بقوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)() وكذلك في قوله: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق)().
إخوة يوسف والأخذ بالأسباب:
وإذا نظرنا إلى إخوة يوسف () في فعلهم المنكر وأخذهم أخاهم الصغير وتبييت النية له أن يقتلوه أو يطرحوه أرضا ليكونوا من بعده – في زعمهم – قوما صالحين احتالوا أولا على يعقوب () في أن يأخذوه إغراء بأنه معهم:( يرتع ويلعب)(), وأنهم له حافظون وكل هذا سعي حثيث للوصول إلى مرادهم,( وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)(). واختيارهم لوقت العشاء وقت الليل الذي تغطش فيه الأشياء ويظلم فيه الكون حتى لا تلتقي أعينهم بعيني يعقوب س فيعرف مكرهم وكيدهم, والعرب تقول:
العين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها()
واختاروا هذا الوقت لأن التباكي فيه لا يظهر إن كان حقيقة أو خداعا أما لو جاءوه في النهار لفضح النهار نياتهم كما قيل :
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى()
ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل:( جاؤوا على قميصه بدم كذب)() لطخوا به قميصه حتى يظن يعقوب () أن الذئب هو الذي أكله. وإذا تركنا أولاد يعقوب إلى امرأة العزيز وجدنا أنها من أجل أن تصل إلى ما تريد أخذت بالأسباب ولو كان ما تريده باطلا, ويصور القرآن الكريم سعيها هذا وحرصها على الأخذ بالأسباب بقوله: ( وغلَّقت الأبواب وقالت هيت لك)()فهي تغلِّق بصيغة التشديد وتمضي تقفل بابا, بابا, وليس ذلك إلا لون من ألوان الأخذ بالأسباب وكونها تتهيأ له بهذه الصورة التي رصدها القرآن الكريم ليس إلا أخذا بالأسباب وحرصا على المراد.
وإذا انتقلنا إلى صورة أخرى أضوأ فألا وأسطع نورا, وهي صورة أخذ يعقوب() بالأسباب وجدناه في البداية يوصي ابنه يوسف () ألا يقص رؤياه على إخوته حتى يتم الله عليه نعمته, ويمكنه كما مكن آباءه من قبل إبراهيم وإسحاق فيقول: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم)(). وعندما أراد إخوة يوسف بعد سنين أن يذهبوا إلى أرض مصر ليمتاروا من عزيز أمرهم بالأخذ بالأسباب أمرا عمليا فقال: (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون )(). وذلك خوفًا عليهم من الحسد, وحرصا على أن يتعاملوا مع الأسباب, ونرى أن الله يبارك هذا الإرشاد من يعقوب فيقول تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(), فأثنى الله تعالى على صنيعه بقوله: (وإنه لذو علم لما علمناه) وعندما عاد إخوة يوسف يقولون :( يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون)() قال لهم :( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)() مرشدا لهم إلى الأخذ بالأسباب تلك الدعامة التي لا تقوم أمة ولا تنهض دولة إلا بها. وهذه كلها إشارات سريعة وإلا فهي غنية بهذه القضية غنى يدعو إلى دراستها دراسة مفردة, تبرز جوانبها ومعالمها.
يوسف المكين والأخذ بالأسباب:
وإذا انتقلنا إلى رواد التمكين في النماذج التي انتخبناها وجدنا يوسف () يأخذ بالأسباب بدرجة عالية, وذلك في أكثر من ملمح من الملامح, نجملها فيما يلي:
الملمح الأول: موقفه مع صاحبي السجن.
فإن يوسف () قال للذي نجا منهما:(اذكرني عند ربك)(), وذلك بعد أن ظهر لأصحابه في السجن مهارة يوسف في تعبير الرؤى, ودينه وخلقه الذي حمل أصحاب السجن – وهم من هم بصفاتهم وطباعهم- يقولون له: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)() فهو عليه السلام يطلب من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك حتى تظهر أمامه إمكاناته ومهاراته التي من الممكن أن يخدم بها الأمة التي يعيش فيها, ومن خلالها يكون مكينا في أرضها.
الملمح الثاني: في تخطيطه لعبور السنوات العجاف فإنه لم يكن رجل عبادة وابتهال فحسب, ولا راهب ليل فقط, بل هو إنسان مهيأ للتمكين والخلافة في الأرض عن الله ,إنسان يحمل صفات رجل الحركة, ورجل العقيدة التي تسيره عقيدته فيتحرك بها ولها ليملأ الأرض رزقا غدقا وخيرا وبركة وعدالة ورحمة بأمر الله .
لقد وضع يوسف()تصورا اقتصاديا حمى من خلاله مصر وما حولها من البلاد من مجاعة مهلكة كادت تودي بها (قال تزرعون سبع سنين دأبا)()أي:متوالية متتابعة وهي السنوات المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان,( فما حصدتم فذروه في سنبله)() أي: اتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية (إلا قليلا مما تأكلون)(), فجردوه من سنابله واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى, المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف, (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد)(), أي: لازرع فيهن (يأكلن ما قدمتم لهن)() وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها,(إلا قليلا مما تحصنون)(), أي: مما تحفظونه من التهامها, (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)()أي: ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب تنقضي ويعقبها عام رخاء يغاث فيه الناس بالزرع والماء وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونها زيتا)(), فانظر إلى هذه الشخصية المكينة التي تأخذ بالأسباب إلى أقصى درجة من الأخذ وتتعامل معها على قمة درجات التعامل, فإنه لم يعبر الرؤيا فقط, بل يضع خطة عملية لتجاوز هذه المرحلة والوصول بالبلاد والعباد إلى طريق السلامة وبر الرشاد, وقد كان, ووصية يوسف () بأن يذروا ما يحصدونه في سنبله هي إحدى الوسائل التي أثبت العلم الحديث فاعليتها في حفظ الغلال بعيدة عن آفات العطب والخسارة فنظام صوامع الغلال ونظام التخزين بالأغلفة نظام معتمد في التخزين في العصر الحديث.
الملمح الثالث: موقفه في استبقاء أخيه.
عندما أراد يوسف () أن يستبقي أخاه لديه ما اكتفى بالعاطفة المجردة وإنما سعى وراء الأسباب ودبر حتى وصل إلى ما أراد, وذلك قوله تعالى::( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليه ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم)() ,فإنك تلحظ هنا أنه أمر فتيانه أن يجعلوا السقاية في رحل أخيه, كما نلحظ الذكاء الواضح في بدئه بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ولقد سمى الله ذلك كيدا أي: تدبيرا وتخطيطا وأيد هذا الأمر بما يؤكد أنه مشروع ومندوب بقوله: ( كذلك كدنا ليوسف), بل سماه علما بقوله: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم).
الأسباب وحدها لا تكفي:
على الرغم من أخذ يوسف بالأسباب التي هي سبب من أسباب التمكين إلا أننا نلحظ فهم يوسف الدقيق بأن الأسباب وحدها ليست كافية للوصول إلى المراد, إن الله تعالى قال: (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)()( لقد شاء الله أن يعلم يوسف () كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد وكان هذا من اصطفائه وإكرامه؛ إن عباد الله المخلصين ينبغي أن ُيخلَصُوا له سبحانه وأن يدعوا له وحده قيادهم ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك يتفضل الله سبحانه عليهم فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضىً وشوقا فيتم فضله بهذا كله)(). إن الأسباب وحدها لا تكفي وفي قصة الصديق يوسف () نفسه فضلا عن باقي آيات القرآن الكريم شواهد ذلك وأدلته, إن الله يقول في القصة نفسها: (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)() فلو نظرنا إلى الأسباب وحدها لعجزنا, وإلا فمن الذي حمل رائحة ثوب يوسف () تلك المسافة الشاسعة بين أرض مصر مكان تحرك العير وفصالها من عند يوسف () ٍوبين أرض الشام مكان إقامة يعقوب (), إن هناك أسبابا ماضية وقوانين حاكمة لكن هناك مسبب الأسباب ومدبر تلك القوانين والسنن وهو الله .
ذو القرنين وقضية الأخذ بالأسباب:
وإذا انتقلنا من هذا النموذج إلى نموذج آخر من نماذج التمكين يمثل الحاكم الصالح وهو ذو القرنين ذلك الذي طاف المشارق والمغارب بأمر الله ومعونته, ليرسي فيها مبادئ الإيمان وقيم الحضارة الإنسانية وجدنا قضية الأخذ بالأسباب في حياته تمثل معلما بارزا, وأساسا متينا من أسس التمكين وأسبابه, ويمكن أن نلمح ذلك في الخطوات التالية:
الملمح الأول: من خلال قوله تعالى:(وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا)() ولعلك تلمح معي من الآيات الكريمة أنه بذل وسعه في الوصول إلى مراده, من تمكين قيمه التي يدعو لها بين الناس, وليس كل إنسان يشعر هذا الشعور أو يدرك هذا الإدراك من البذل والجهد والسعي وراء الأسباب حتى يخدم قضيته ويدعم فكرته فيكون جندي عقيدة وفكرة لا أجير عمل وموظف دولة, يعمل ساعات محدودة وأوقات معينة ( لقد أعطاه الله من الأسباب الموصلة لما وصل إليه ما به يستعين على قهر البلدان, وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران, وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه, ولا كل أحد يكون قادرا على السبب, فإذا اجتمعت القدرة على السبب الحقيقي والعمل به حصل المقصود, وإن عدما أو أحدهما لم يحصل)() فإن ذا القرنين أوفى الأسباب الموصلة إلى مقصوده فاتبع هذه الأسباب ولم يقصر في استخدامها وتوظيفها والانتفاع بها.
الملمح الثاني: سيره إلى المشارق والمغارب.
في صورة تحس حركتها من وصف القرآن الكريم لها: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دوننا سترا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما)(), وأنت تلحظ هنا أنه في حركة دائمة دائبة وعمل مستمر لا يتوقف ولا يأفل في مكان إلا بزغ في مكان آخر, وتلك سمة الشخصية التي تستحق التمكين في الأرض, شخصية لا تهدأ وفي عقلها فكرة تنفع البلاد والعباد إلا إذا بذلت طاقتها في تنفيذها والسعي في سبيلها والعمل من أجلها,
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام()
ففي كل مكان يصل إليه ذو القرنين رحالة ينشر فكره, ويغرس قيمه, ويحرك الناس من حوله, فهو في عمل دائم, وتواصل مستمر, والنموذج الإنساني الذي يحرص على التمكين لابد أن يحرص على الحركة من أجل هذا التمكين,( فإذا كانت المطالب عالية فلابد أن تكون المباذل غالية)، وقديما كان العرب – وقت أن كانوا عربا - يفهمون بفطرتهم هذه القيم الأساسية في حياة الإنسان؛ فإن لكل بضاعة ثمنا, ولكل صفقة سعرا، وسطروا ذلك في ديوانهم فقالوا:
وإنا أناس لا توسط بينــنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر()
الملمح الثالث:حرصه على غرس قيمة الأخذ بالأسباب فيمن حوله.
إن ذا القرنين غرس فيمن حوله ممن يتعامل معه قيمة الأخذ بالأسباب, فعندما قال له القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا: (يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا)() قال لهم: (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا)() فهذا الرجل الصالح المصلح على الرغم من حرصه على إعمار الأرض وإسعاد الناس وحل مشكلاتهم بل معضلاتهم إلا أنه أراد أن يغرس في نفوس هؤلاء الذين:( لا يكادون يفقهون قولا)() أن قيمة الإنسان في الحياة ليست في أن يملك مالا(خرجا) يعطيه لغيره ليعمر له أرضه ويغرس له زرعه ويجعل الحياة ربيعا في ناظريه فحسب بل قيمته في أن يكون إنسانا صاحب حركة وعمل صاحب سعي وراء الأسباب, يفيد منها ويوظفها, ينتفع بخيرها, وينعم الناس معه بعطائها فقال لهؤلاء: (ما مكني فيه ربي خير) أي: ما أعطاني الله- تعالى- من المال والتمكين في الأرض خير من هذا الخرج الذي ستبذلونه لي ولكن تعلموا أنتم قيمة الإنسان في الحياة :(فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما), فأنا لا أحتاج مالكم فحسب بل أحتاج إلى قوتكم العضلية والمادية معاً حتى نثمر سويا؛ فإن قيمة الإنسان في عمله وحركته, لا في بذله وعطائه فحسب.
الملمح الرابع:مباشرته بنفسه عملية البناء.
لقد باشر ذو القرنين بنفسه عملية البناء فقال لهم: (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال آتوني أفرغ عليه قطرا)()
وعندما يقوم الحاكم بنفسه والقائد بذاته ليباشر عملا من الأعمال الضخمة فإن لذلك فعل السحر في نفوس الشعب والرعية, وإذا تتبعنا نماذج الممكنين في الأرض من عباد الله الصالحين وجدناهم يمضون على خط واحد, ويسيرون بمناهج متقاربة, وموقف نبينا محمد ( ), وهو يحمل بنفسه- في حفر الخندق المكتل على ظهره الشريف وكان في إمكان أصحابه أن يكفوه ذلك له من هذه الدلالات ما له حتى قال أصحابه:
لئن جلسنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلل()
بل إنه ( ) لا يشاركهم العمل فحسب ليدلهم على الأخذ بأسباب التمكين بل يشاركهم العاطفة والشعور كذلك, فإذا ترنموا أنشودة أنشد معهم, فإذا قالوا:
لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا()
يردد معهم أواخر البيت فيقول:
ولا صلينا...إن لاقينا.....وهكذا.
وإذا مضينا مع الممكنين في الأرض وجدنا نبي الله داود الذي مكن الله تعالى له في الأرض وآتاه من لدنه فضلا وصور ذلك في الدستور الخالد بقوله:(ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد)() أمره الله وأرشده إلى هذه القضية فقال :(أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير)(), لقد أرشده الله إلى صنع الدروع السابغات التي تستر صاحبها, وتقيه رماح الأعداء ونبالهم, ويضيق في حلقات هذه الدروع حتى لا تنفذ منها السهام, وما أروع أن يفهم المسلمون هذه الإشارات القرآنية, فإلى الذين يبغون التمكين في الأرض على منهاج القرآن فلينظروا إلى هذه النماذج التي مكن الله لها فسعدت حياتها وأسعدت من حولها.
وخلاصة القول أن الأخذ بالأسباب عنصر من عناصر التمكين, وسبب من أسبابه, لا يقوم تمكين في الأرض بدونه, ولا تنهض حضارة حقيقية بغيره, إن الأسباب وحدها لا تستقل بالتمكين لكنها سبب موصلة إليه وطريق هادية إلى رحابه.
الفصل الثالث:
شروط التمكين
ورد التمكين في القرآن الكريم كما سبق مرات عديدة, بلغت ثماني عشرة مرة, ودارت على محاور ثلاثة هي: الإنسان, والمنهاج, والأرض،
وقد ورد مشروطا بشروط إذا تحققت تحقق التمكين, ونعم الناس به, ورفلوا في عطائه, وعاشوا في ظلاله,وقبل الحديث عن شروط التمكين نتعرف معنى الشرط فنقول: ( الشرط تعليق شيء بشيء بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني وقيل الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجا عن ماهيته ولا يكون مؤثرا في وجوده وقيل الشرط ما يتوقف ثبوت الحكم عليه, وفي اللغة عبارة عن العلامة ومنه أشراط الساعة والشروط في الصلاة, وفي الشريعة: عبارة عما يضاف الحكم إليه وجودا عند وجوده لا وجوبا)()(وقال الراغب كل حكم متعلق بأمر يقع لوقوعه وذلك الأمر كالعلامة له)()
وفي الصفات التالية نتناول هذه الشروط علي النحو التالي:
المبحث الأول: الإيمان العميق.
المبحث الثاني: الترابط الوثيق.
المبحث الثالث: العمل الدءوب.
المبحث الرابع: الربانية.
المبحث الأول: الإيمان العميق
(آمنوا)
الإيمان هو الطاقة التي تدفع صاحبها إلي الحركة والعمل, والزاد الذي يتزود به في نوازل المحن, بدونه لا يستطيع المرء أن يصبر علي بلاء, ولا أن يطمع في رجاء؛ فهو الذي يحيل الجسد الهامد إلي شعلة من نشاط, والقلب الخامل إلي جذوة من عطاء, والطاقة المعطلة إلي حركة هادرة وعمل موار.
ولأمر ما كانت عناية القراَن الكريم بالحديث عن الإيمان وأثره في صنع الأفراد والمجتمعات, وتهيئة الناس لتلقي أوامر الله –تعالي- في السراء والضراء, والمنشط والمكره, وعلي أثرة من أنفسهم، فأتت الآيات تتحدث عن الإيمان وفضله, وأهميته وأثره, وتحدد صفات المؤمنين, مرة تصفهم بأنهم عباد الرحمن, وأخري بأنهم المتقون, والثالثة ألآخري بأنهم المحسنون.
(إن قضية الإيمان ليست علي هامش الوجود, يجوز لنا أن نغفلها أو نستخف بها أو ندعها في زاويا النسيان, كيف وهي أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره, بل قضية الإيمان أعظم قضية مصيرية بالنظر إلي الإنسان, إنها سعادة الأبد أو شقوته, إنها الجنة أبدا أو النار أبدا, فكان لزاما علي كل عاقل أن يفكر فيها, ويطمئن علي حقيقتها, وقد فكر الكثيرون من أولي الألباب وانتهي كل منهم إلي إثبات العقيدة في الله بطريقة خاصة)()
لذا أخذ كلٌ طريقة في البحث عن السبيل الذي يصله بالله عز وجل؛ لإدراك الفطرة الإنسانية مدي حاجتها إلي الإيمان وهو المعني الذي يدركه الإنسان مطلق إنسان عند الأزمات والمحن والشدائد والفتن, "هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبه وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونها من الشاكرين"()
( إن الفرد بغير دين ولا إيمان ريشة في مهب الريح لا تستقر علي حال, ولا تعرف له وجهة, ولا يسكن إلي قرار مكين، الفرد بغير دين ولا إيمان إنسان ليس له قيمة فهو إنسان قلق متبرم حائر لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده لا يدري من ألبس ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين ؟! وهو بغير دين ولا إيمان حيوان شره, أو سبع فاتك لا تستطيع الثقافة ولا القانون وحدهما أن يحدا من شراهته أو يقلما إظفاره، والمجتمع بغير دين ولا إيمان وإن لمعت فيه بوارق الحضارة ..الحياة والبقاء فيه للأشد والأقوى لا للأفضل و الأتقى, مجتمع تعاسة وشقاء, وإن زخر بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم, تافه رخيص لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون والفروج فهم: ( يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم())()
الإيمان الذي نبتغيه:
والإيمان الذي نرجوه, ونسعى له ونزكيه ليس هو الإيمان المخدر النائم في سبات عميق في نفوس المؤمنين, الذي تتحرك الدنيا من حوله وهو لا يحير جوابا ولا يجيب سؤالا؛ إنما نقصد به الإيمان الذي يدفع حركة الحياة ولا يوقفها, وييسر مسيرتها ولا يجمدها ذلك هو( الإيمان القوي الدافق, الذي يبلغ مداه, ويشرق علي القلوب سناه, ويخط في أعماق النفوس مجراه)
وإذا كان الإيمان بصورته هذه هو الهدف المرتجي والمقصد المبتغي لإيقاظ النائمين, وتحريك الواقفين, وتسيير حركة الجامدين, إذا كان هذا الإيمان بصورته هذه له أثر في عموم الناس فإن أثره عميق, وضرورته أعظم في بلادنا الإسلامية والعربية خاصة وقد قال ابن خلدون قديما: (لا تقوم للعرب رسالة إلا على أساس دين), ( فإن لكل قفل محكم أصيل مفتاحا معينا, مهما تحاول فتحه بغيره كانت محاولاتك عبثا لا فائدة منها ولا طائل تحتها إلا إضاعة الوقت والجهد في تجارب فاشلة، ومفتاح الشخصية الإسلامية العربية علي وجه خاص هو الدين والإيمان, ومهما تحاول أن تزكي هذه الشخصية وأن تفجر طاقاتها المكنونة بغير مفتاحها الأصيل وهو الدين والإيمان, فإننا نحاول عبثا, كمن يبني علي الماء, أو يكتب في الهواء, فبعقيدة الإسلام انطلق العرب من جزيرتهم يخرجون العالم من الظلمات إلي النور, ويؤدبون بسيوفهم الأكاسرة والقياصرة, وكل من صعر للجبابرة, وينقلون الناس من عبادة الخلق إلي عبادة الخالق, ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة ,ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام, انتصرت الأمة علي غزو التتار الذين زحفوا علي هذا الشرق كالريح العقيم ,( ما تذر من شي أتت عليه إلا جعلته كالرميم)() وكان مفتاح النصر... تلك الصيحة التي هزت المشاعر واستثارت العزائم وأيقظت الهمم وهبت بها علي المقاتلين نسمات الجنة ، تلك هي الصيحة التاريخية ( واإ سلاماه ), وتلك هي حقيقة الإيمان الفاعل المؤثر, الذي ينظم شؤون الإنسان كلها, لا تند عنه شاردة ولا واردة من أمور الدين والدنيا والآخرة,( وتلك هي حقيقة الإيمان الضخمة التي تستغرق النشاط الإنساني كله, وتوجه النشاط الإنساني كله فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلي الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله, وهي طاعة الله واستسلام لأمره, في الصغيرة والكبيرة, لا يبقي معها هوي في النفس, ولا شهوة في القلب, ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله – صلي الله علية وسلم – من عند الله فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان بخواطر نفسه, وخلجات قلبه, وأشواق روحه, وميول فطرته, وحركات جسمه, ولفتات جوارحه, وسلوكه مع ربه, في أهله, ومع الناس جميعا, يتوجه بهذا كله إلي الله يتمثل هذا في قول الله سبحانه (يعبدونني لا يشركون بي شيئا)() في آية التمكين, تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن ذلك الإيمان منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب وإعداد العدة والأخذ والتنبؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض أمانة الاستخلاف)(), فإذا لقينا عدونا في أي ميدان وهو صاحب دين ونحن نتوارى حياء من ديننا, وهو صاحب عقيدة ونحن بلا عقيدة فما تغني عنا شعارات براقة, وكلمات رقراقة, وعناوين جذابة, ولو جمعنا فكر الدنيا وأسلحة العالمين,
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام()
إذن فالإيمان ضرورة للإنسان الذي ينشد التمكين ويسعي إليه, وضرورة للجماعة التي تنتدب نفسها لهذا الهدف العظيم والغرض السامي غرض التمكين لدين الله في أرضه, وتهيئة عباده لأن يكونوا- بحق عبادا ربانيين يصلحون دنياهم بتحكيم دينهم؛ حتى تصح حياتهم, وتفلح آخرتهم, وذلك هو الفوز العظيم، والفتح المبين.
وإذا تتبعنا صور التمكين التي رست علي وجه البسيطة, واستقرت أركانه في الأرض عرفنا مدي تحقق صفة الإيمان عند هؤلاء الذين يسر الله- تعالى- لهم أمر التمكين, وبسط لهم أسبابه فيوسف- عليه السلام- الذي مكن الله -تعالي – له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء, وعلمه من تأويل الأحاديث, صورة حية من صور الإيمان الذي يصل بصاحبه- عن طريق إقامة العدالة, ورعاية أمر الرعية والسهر علي راحتها يصل به إلي التمكين المنشود, فقد سخر يوسف – عليه السلام – علمه وخبرته وطاقته بدافع من دينه وإيمانه في خدمة الشعب الذي ألقي في يديه زمامه بعد أن وثق في إحسانه وإيمانه فقالوا جميعا بلسان الحال ما قاله صاحباه في السجن بلسان المقال: ( إنا نراك من المحسنين )().
وذو القرنين الذي طاف المشارق والمغارب وآتاه الله من كل شي سببا فأتبع سببا صورة حية كذلك للإيمان الواقعي الحي الذي يحرك النفوس ويدفع مسيرتهم إلى قلب الحياة, فقد دفعه إيمانه إلي استخراج طاقات القوم والإفادة منهم ودفعه كذلك إلي توظيف هذه الطاقات توظيفا جيدا حتى لا يكونوا عاطلين باطلين دون عمل ولا هدف متكئين عن جيوبهم:( فهل نجعل لك خرجا علي أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما )()
وهكذا إذا نظرنا في كل صورة من صور التمكين في القرآن الكريم وجدنا أثر الإيمان فيه وأنه لا تمكين بدون إيمان.
والذي يتتبع ألفاظ الإيمان في القرآن الكريم يجد أن الإيمان له أهمية كبري ومزية عظمى, وهو ضرورة من ضرورات السعادة والنصر والتمكين.
1- فالإيمان أساس قبول الأعمال, وفي ذلك قوله تعالي: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم )(), وقد ذكرت آيات متعددة أن عدم الإيمان سبب في رد أعمال أصحابها كقوله تعالي: ( وقد منا إلي ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )(), وقوله- عز وجل-:( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا علي شي ذلك هو الضلال المبين )()،( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)()
2- كما يتضح من الآيات أيضا أن الإيمان سبب سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فالله تعالي يقول:( ومن يؤمن بالله يهد قلبه )() ويقول عز من قائل:
( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين )() ويقول:( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)()
3-الإيمان أساس التمكين ودعامة النصر ( يأيها الذين آمنوا إن تتقو الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )(), ويقول:( وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استحلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )()
4- الإيمان يجلب البركة ويكثر الخير:( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )()
5- والإيمان سبب لتكفير السيئات:( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم )().
إلي غير ذلك الآيات الكريمة التي تؤسس وتؤصل لمعاني كثيرة مرتبة علي الإيمان الصادق الذي يسري في النفوس والقلوب مسري النور في الظلم.
أهمية الإيمان للجماعة:
تكمن أهمية الإيمان بالنسبة للجماعة في أن الإيمان هو السر الرباني, والروح اللطيف الذي يسري في قلوب العباد فيحركها بالعمل والحركة والثمرة والإنتاج، فالإيمان يولد في نفوس الأفراد والجماعات روح العزة والكرامة والسيادة:(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )(), كما أنه يؤسس في قلوب الجماعة معاني الأخوة الصادقة, فلا أخوة بغير إيمان, وإن كانت بلا إيمان فهي وبال ونكال علي أصحابها:( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)(), وهو للجماعة أساس تماسك بنيانها, وتلاحم لبناتها, فيصبح بعضها لبعض كالبنيان المرصوص: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )()
وخلاصة الأمر أن الإيمان الفاعل المحرك المؤثر شرط أساس من شروط التمكين الذي نقصده ونسعى إليه,أما إذا اضعف الإيمان, وقل الزاد, وضمر العتاد فهناك آثار خطيرة, وعواقب وخيمة, يمكن أن تقع, ويمكن أن نجمل آثار ضعف الإيمان في الآتي:
آثار ضعف الإيمان:
وإذا ضعف الإيمان قلت ثماره وجف عطاؤه, وذهبت قيمته وأثر ذلك في المجتمع كله أفرادا وجماعات, وشعوبا وحكومات, فأثر علي الفرد في استقلاله وهويته وأصبح مسخا بلا قيمة, وشكلا بلا مضمون, ومظهرا بلا جوهر, فأصبح شكله شكل المسلمين, وعمله ليس كعمل المسلمين, فيصبح إنسانا مفرغا من المضمون
كصوت الطبل يسمع من بعيد وباطــنه من الحق خواء
يصبح في الحياة كأنه ليس من أهل الحياة, يتحرك بين الأحياء لكنه بقلبه وعقله وفكره مغيب في عالم الموتى الذاهبين:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الإحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء()
لقد صور القران الكريم هذا في صورة من أبلغ الصور وأولاها بيانا وتعبيرا, صورة الحي والميت, (الحي) بكل ما تعطيه كلمة:(الحياة), من حركة وعمل, وانطلاق, وعطاء, (والميت) بكل ما تحتويه كلمة:(الموت), من همود وخمود, وغياب, وجمود, وذلك عندما قال الله تعالي:( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثل في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون )(), وفي صورة أخري من صور تجسيد هذا التفريغ من المضمون الذي يؤدي إليه ضعف الإيمان يتحدث القرآن الكريم: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )() وإذا تأملنا الواقع الذي نعيشه تأكد لدينا صحة هذه النظرة, فكم نري من أناس لهم شارات وعلامات وليس لهم من القيم التي تسندها, والمبادئ التي تدعمها, والإيمان الذي يشدها ويمدها بالقوة ويربطها بالحياة, فتمضي بهم الحياة ثم لا يخلفون فيها أثرا, ولا يتركون منها عملا, فهم أموات رغم أنهم يعيشون في الحياة،وكم نري من أناس ذهبت أجسادهم, وفنيت أعيانهم, وبقيت آثارهم فهم موتي الأجساد أحياء بين الناس بآثارهم وتراثهم, وعطائهم, وفكرهم, و( حسبك أن قوما موتي تحي القلوب بذكرهم وأن قوما أحياء تقسوا القلوب برؤيتهم).
ومن آثار ضعف الإيمان علي الفرد كذلك شعوره بالضنك وإن كان من الأثرياء الموسرين, والضيق وإن كان من أصحاب المراكب الفارهة, والمساكن الفسيحة, والدنيا المقبلة, وهذا ما يصوره قوله تعالي:( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي)(), كذلك عندما وصف الله- تعالي– المؤمنين في سورة محمد وصفهم وصفا يدل علي راحة النفس, وقرار العين, وهدوء الضمير,عندما وصفهم بصلاح البال, ولم يصفهم بصلاح الحال, فقال تعالي:( الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما أنزل علي محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم )() وهذا الوصف بصلاح البال هو وصف من باب أولي بصلاح الحال لأن في صلاح البال صلاح الحال دون عكس.
كم عائل راض وكم وكم مثر مر علي بؤس قعيد
فيقيم في هم الطريق وفي الحفاظ علي التلــــيد
جشع به كجهنــــم يــشكو ألا هل من مزيد ()
ومن آثاره غياب الوجهة الصحيحة, وفقدان الهدف, وغيوم الرؤية, وقد يمشي صاحب هذا الإيمان عكس الطريق المستقيم, فيضل من حيث يحسب أنه يحسن صنعا, وقد وصفهم القرآن الكريم بأنهم ( ضل سعيهم )() وصورهم في صورة قميئة تعافها الفطر السوية وتأباها النفوس المستقرة ( أفمن يمشي مكبا علي وجهه أهدي أمن يمشي سويا علي صراط مستقيم)()
آثار ضعف الإيمان علي الجماعة:
وإذا كانت آثار ضعف الإيمان علي الفرد بهذه الخطورة وتلك الشدة فإن آثاره علي المجتمع كله أشد خطرا, وأعظم ضررا فإنه يغتفر في الحالات الفردية ما لا يغتفر في الأمور الجماعية المجتمعية فإن صاحب الخطأ إذا كان فردا فإنه لا يلبث أن يتواري خطؤه ويذهب ضرره وينطفئ شرره ويطويه النسيان في عالم الذاهبين أما إذا كان المجتمع كله أو معظمه بهذا الترهل الإيماني والضعف العقدي فإنه يصبح مجتمع الصور لا مجتمع الحقائق, ومجتمع الخيال لا مجتمع الواقع المعيش, وشتان بين الصورة والحقيقة, وبين والواقع والخيال .
ومن أخطر آثار ضعف الإيمان علي المجتمع اهتزاز القيم في مصدر التشريع فلا يسمع له ويطيع ولا ينفذ أمره ويقف عند نهيه وهذا ما صوره القرآن الكريم .
في قوله تعالي:( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )()
وإذا تتبعنا سيرة الرسول – صلي الله عليه وسلم – وموقف الناس معه وجدنا فرقا واسعا, وبونا شاسعا بين أفراد وأفراد, من فرد حريص علي إيمانه زاد يقينه وقوي دينه فيقول للنبي – صلي الله عليه وسلم- بعد أن يعرض عليه حظوظه من الغنيمة: ما على هذا تبعتك, ولكن تبعتك علي أن أرمى هاهنا بسهم فألقي الله- تعالي- شهيدا فقد أخرج النسائي في السنن:( أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا قالوا قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قال قسمته لك قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أهو هو قالوا نعم قال صدق الله فصدقه ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه, فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك)(), أو يقول له – صلي الله عليه وسلم-: ( صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت, وخذ من أمولنا ما شئت ودع منها ما شئت, وما أخذت منها أحب إلينا مما تركت )().
شتان بين هذا ويبين من يقول له:( إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، أعطني يا محمد فليس المال مالك ولا مال أبيك)(), شتان شتان بين سلوك دافعه إيمان قوي, وعزم فتي وسلوك وراءه إيمان هش, ودين رقيق, فهو واهي كبيت العنكبوت, ومن أخطر آثار ضعف الإيمان تأخر النصر والتمكين؛ لأن التمكين لا يكون لأصحاب الإيمان الهش, والدين الرقيق؛ إنما يكون لأصحاب العزمات الماضية, والإرادات النافذة, ولا تكون هذه إلا لأصحاب الدين القوي, والعزم الفتي الذي يريد فتريد الدنيا بإرادته وتسمع وتطيع لصيحته.
وصور التمكين التي حدثت في واقع الحياة كان من أساسيات رسوها ورسوخها, ودعائم وجودها, وأركان ثباتها أن أصحابها مؤمنون إيمانا أثمر عملا بل أثمر عملا صالحا؛ لذلك فالإيمان وحده لا يكفي إلا بالعمل, والعمل وحدة لا يكفي إلا أن يكون عملا صالحا حتى يثمر تمكينا صحيحا.
المبحث الثاني:
الترابط الوثيق أو: (العمل الجماعي).
(الذين-آمنوا-عملوا-يعبدونني-لا يشركون)
الإنسان خليفة الله في أرضه, خلقه بيده ونفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, وأسكنه جنته, وفضله علي كثير ممن خلق تفضيلاً.
ومن تفضيل الله – تعالى - للإنسان أن حباه التمكين, وأرشده إلي عدد من الشروط, التي إن حققها كان ذلك خطوة من خطوات التمكين في الأرض, واستطاع أن يعبد الله- تعالى- بالمنهاج الذي أنزله, وفي الأرض التي أنعم الله –تعالى- بها عليه, وجعله سيداً فيها وخليفته من قبله عليها .
ومن الشروط التي رصدها القرآن في قضية التمكين ما يلي:
أولاً : وجود الجماعة المؤمنة:
فالإنسان بمفرده لا يستطيع أن يحقق التمكين المقصود في القرآن الكريم, ذلك الذي يجعل الإنسان قادراً علي تطبيق المنهج الرباني, ويعبد الله –تعالى- بالصورة التي يريدها الله --.
وقد ورد الحديث عن الجماعة, والعمل الجماعي في القرآن الكريم, والسنة النبوية المطهرة مرات عديدة, وإذا تتبعنا مثلاً أوامر القرآن الكريم ونداءاته فإننا نجد أن الآيات الآمرة, والناهية, والمخاطبة للإنسان تأتي بصورة الجمع:( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا )() (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأ بشروا بالجنة التي كنتم توعدون )(), وقوله - تعالى- في معرض دفع المؤمنين إلي الوحدة, والائتلاف, والسير علي قلب رجل واحد: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(), بل وردت آيات صريحة تأمر المؤمنين بأن يكونوا يداً واحدة، ولا يتفرقوا شيعاً وأحزاباً كقوله تعالي: (... واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)().
وإذا تتبعنا أحاديث الرسول – صلي الله عليه وسلم – في الحديث عن الجماعة والعمل الجماعي سنجد الأمر واضحاً لا يحتمل لبساً ولا غموضا, فقد وردت أحاديث صحيحة صريحة في وجوب العمل الجماعي, كقوله – صلي الله عليه وسلم-: ( من أراد ُبحبُوحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد, وهو من الاثنين أبعد )(), وكقوله – صلي الله عليه وسلم-: ( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )(), وقوله: ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )().
هذا وإذا كان العمل الجماعي سبيلا إلي التمكين فهو واجب؛ ذلك أن التمكين لدين الله في الأرض فريضة وواجب,(وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب),( فإذا لم يكن من سبيل إلي تحقيق هذا المقصد الأسمى إلا بالمساعي الجماعية, لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة, تؤمن بمبادئ الحق وتحافظ عليها, ولا تكون لها غاية في الحياة إلا إقامة نظام الحق, وإدارة شؤونه بعناية من الاهتمام والعناية,- ولعمر الحق إنه لو لم يكن علي وجه الأرض إلا رجل واحد مؤمن لما جاز له أن يرضي علي نفسه بتسلط نظام الباطل حينما يجد نفسه وحيداً فاقداً للوسائل اللازمة, أو أن يحاول التستر وراء الحيل الشرعية, كالاقتناع بأهون البليتين، أو أن يساوم نظام الكفر والفجور السائد في إيمانه, ويقنع بحياة موزعة بين الكفر وطاعة الله, بل الحق إنه لا يكون أمامه إلا طريق واحد وهو أن يدعو الناس كافة إلي منهاج الحياة الذي يرضي به ربه- تعالى-, فإن لم يستجب لدعوته أحد فإن قيامه علي الصراط المستقيم, واستمراره في دعوة الناس حتى يلقي ربه خير له ألف مرة من أن يتنكب الصراط الحق, ويهتم بنعرات تهش لها وتفرح بها الدنيا المتسكعة في بيداء الضلالة والغواية, أو يأخذ في المشي علي طرق جائزة بزعامة الكفار، وإن وجد من عباد الله رجالاً يستمعون لقوله, ويلبون دعوته فعليه أن يؤلف منهم كتلة, لا يكون من همها إلا استنفار جميع القوي الجماعية في سبيل تحقيق تلك الغاية, التي نحن بصدد )().
والمتتبع لآيات التمكين يجد هذا المعني واضحاً, فقد وردت الآيات معظمها بصورة التعبير الجماعي, سواء كان ذلك في الحديث عن التمكين المطلق, الذي يعتمد علي الإنسان والأرض، أو التمكين الذي يقصده القرآن الكريم, ويهيئ المسلم للعمل من أجله, والذي يعتمد علي مفردات: الإنسان, والمنهاج, والأرض, ولو أعدنا النظر في هذه الآيات لوجدنا الأمر واضحاً, اقرأ إن شئت قوله- تعالى-:( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة )(),( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش )(), ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم )() (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عافية الأمور)() ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم )().
وصور التمكين الواردة في القرآن الكريم لم يقم بها أفراد مطلقون وإن ظهر في قمة التمكين بعض هؤلاء الأفراد لأن التمكين بمعناه المقصود لا يكون تمكين فرد لذلك لا يستطيع أن يحققه أفراد إنما هو تمكين أمه وجماعة تسعي له وتحيا من أجله وتموت في سبيله حتى يأذن الله تعالى به (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)() ، وطبيعة التمكين أنه عمل مؤسسي جماعي لا عمل ذاتي فردي لذلك لا يتحقق إلا بإيجاد جماعة تستقي صفاتها من صفات الجماعة الأولي التي رباها الرسول – صلي الله علية وسلم – علي عينه واختارها فرداً فردا فأعطاها وقته وحياته وكانت هذه هي بداية الانطلاق وشرارة البدء التي جابت المعمورة ترسي المبادئ وتغرس القيم وتفك عن الناس أغلال القرون الأولي وما خلفته في العقول من خرافة وما تركته في القلوب من زيغ وضلال وما دار الأرقم والتربية الدقيقة التي يتبناها الرسول- صلي الله علية وسلم – مع أهلها عنا ببعيد هذه المجموعة المركزة والجيل الرائد من الرعيل الأول- رضوان الله عليهم أجمعين- هم الذين كانوا معتمد الدعوة والتمكين في الأزمات, فقد مرت بالمسلمين محن شداد كان الناس يتفرقون إلا أصحاب البيعة وأصحاب التربية المكينة الدقيقة التي مورست معهم علي تؤدة ومهل.
المبحث الثالث:العمل الدقيق.
(وعملوا الصالحات)
كما يشترط للتمكين وإيمان عميق, عمل جماعي, يشترط له كذلك عمل دقيق, العمل الذي هو ثمرة الإيمان فإن إيمانا لا يثمر عملا إيمان أجوف, ليس له عطاء, ولا يرجي منه نماء, كشجرة جوفاء, ليس منها خير ولا يبتغى منها نفع.
وقد ورد الإيمان في آيات القرآن الكريم مرتبطا بالعمل, حتى أصبحا متلازمين, فكما تتلازم الصلاة مع الصيام، والأمر بالمعروف مع النهي عن المنكر, يتلازم العمل مع الإيمان, والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد هذا التلازم المطرد في آيات القران الكريم:( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا )(), ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(), ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين )(), إلي غير ذلك من الآيات التي لا تند منها آية واحدة فتتحدث عن الإيمان المجرد؛ ذلك أن تزكية الإيمان وقبوله مرتبط بالعمل الدقيق، المحسَن المنتقى, والأمة اليوم لا ينقصها كم من العلم, أو الثقافة التي تنير طريقها, وتضئ دربها, إنما ينقصها إيمان حي, وعمل دءوب متواصل, يقطع علي البغاة الطغاة طريقهم, هؤلاء الذين يريدون أن يقفوا القافلة السائرة إلى الله - تعالي – يردونها عن الهدي, ويأخذونها إلي الردى, ويدفعونها دفعا إلي الهاوية، وإذا كان عدونا لا ينام, ويدبر بليل وينفذ بالنهار, فإن أسباب ضياع التمكين وتأخر أوانه أن ينام أهل الحق ويتراخى أصحابه( وإذا كان أهل الباطل يعلمون وأهل الحق نائمين فقل: علي الدنيا العفاء.)
ولأمر ما أرشد الله- تعالي- عباده إلي هذه النظرة, عندما وصف أهل الباطل, وحذر منهم أهل الحق في أواخر سورة الأنفال بقوله:( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(), ويصور -عز وجل- إصرار هؤلاء المبطلين علي نفاذ باطلهم ورواج زيفهم بقول بعضهم لبعض:(امشوا واصبروا علي آلهتكم إن هذا لشيء يراد)(), ونحن نعاين ونعايش اليوم أمة الغرب التي أخذت تتعلم, وتعمل, وتشق الأرض, وتصل إلي الفضاء, كأنهم هم المخاطبون بهذه الأوامر القرآنية بالسير في الأرض, والمشي في مناكبها, والنظر في السماء, والتعرف علي مظاهرها, والإفادة منها, وأمة الإسلام التي حفل كتابها بعشرات الأوامر والتوجيهات, بالسير في الأرض, والنظر, والتفكر, والتدبر, والعلم, والتذكر, أمة أصبحت آمالها عند مواطئ أقدامها, وهت همتها, وضعفت عزيمتها, وأصبحت نظرتها للحياة نظرة قصيرة, قليلة, تتحرك الدنيا من حولها وهي واقفة، من هنا كان لزاما على من يسعي إلي التمكين, ويستهدفه, أن يضع نصب عينيه مبادئ الدستور الإلهي, الذي يضع شروطا ومقدمات لقضية التمكين,تلك التي بان أن العمل مفردة من مفرداتها, وواحد من أعمدتها, وشرط أساس من شروط تحققها, فلا تمكين بلا عمل, وعمل جاد متقن, يرقي بأصحابه لأن يؤسسوا حضارة, ويقيموا دولة, ترعي المنهاج, الذي استهدف التمكين, والإنسان الذي يقوم بهذا التمكين, والأرض التي يقوم عليها التمكين؛ إذن فليس العمل وحده هو شرط التمكين, بل عمل موصوف بالصلاح, وكلمة (الصلاح)كلمة غنية بالمعاني, لا تقف عند حدود الصحة, بل تتمدد في دلالتها لتفيد الصلاح في زمان العمل, ومكانه, ومناسبته, فهو عمل صالح للإثمار والعطاء, وصالح في وقته الذي يؤدي فيه, وفي كيفيته التي يؤدي عليها, وفي حجمه فلا يتضخم جزء منه علي حساب جزء آخر, فيصاب الجسم كله بالعلل, والأسقام, والأوجاع, والأمراض, فهو عمل صالح بما تعطيه كلمة (صالح) من دلالات ومعان.
صلاح العمل وعلاقته بالتمكين:
والناظر في آيات الإيمان الواردة في القرآن الكريم يدرك لأول وهلة, وبصورة تكاد أن تكون كلية، لا تنفلت منها مفردة، ولا تند عنها شاردة ولا واردة، يدرك أن الآيات الكريمة تربط بين الإيمان والعمل, ولا تتوقف عند هذا الحد, بل تحدد هذا العمل, وتشترط له الصلاح, والإحسان, فليس كل عمل يؤدي إلي التمكين فمن الأعمال ما يولد قبل أوانه, فيكون كالسقط الذي ينزل قبل تمامه, أو الثمرة التي تقطف قبل بدو صلاحها, فلا الأول يكون إنسانا حيا بين الأحياء, ولا الثاني يكون ثمرا نافعا في أفواه الطاعمين, وإذا تتبعنا لفظة (آمنوا)() فقط في القرآن الكريم, وجدنا فيما يزيد على خمسة وسبعين موضعا يرتبط فيها الإيمان بالعمل, ويوصف العمل بالصلاح, وذلك من بدايات سورة البقرة إلي سورة النصر, وهناك آيات صريحة في القرآن الكريم ترتب التمكين وإرث الأرض علي عمل الصالحات, بعد الإيمان بالله- تعالي- ومن هذه الآيات والتي تعد العمدة في قضية التمكين,آية النور في قوله- تعالي-:( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبد لنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )(), ومن ذلك أيضا ما ورد بصيغة التحقيق والتأكيد, صيغة: (كتب) في قوله- تعالي-:( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(), ومن ذلك أيضا قوله- تعالى-: ( من كفر فعليه كفر ومنعمل صالحا فلأنفسهم يمهدون من ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين)(), ويمهد مضاهى يمهد ويعبد وبعد المهد الذي فيه يستريح ويهيئ الطريق أو المضجع الريح وكلها ظلال تتجمع وتتناسق لتصور طبيعة العمل ووظيفته فالذي يعمل الصالح (إنما يمهد لنفسه أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح؛ ليعدها, وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير )(), وإذا مضينا مع آيات القرآن الكريم وجدناها ترتب علي الصلاح والإصلاح آثارا عظيمة, منها: أن الله- تعالى- لا يجعل أهل الصلاح كالمفسدين في الأرض, لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن ذلك قول الله- تعالى-:(أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار )().
ومنها أن الله- تعالى- يستجيب لهم ويزيدهم من فضله, وذلك قوله- تعالى-:
( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرين لهم عذاب شديد)()
كما وعدهم الله- تعالى- بعدم الإهلاك: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)(),(والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين )(), إلي غير ذلك من الآيات التي ترتب علي صلاح العمل والإصلاح آثار ميراث الأرض, والتمكين فيها, والراحة عليها, والنعيم بخيرها.
وإذا أردنا أن نتتبع العمل الصالح وجدناه ذا تفاريع كثيرة, لا يحصيها العد, وحسبنا أن نقول فيه: ( إنه كل عمل يقوم به الإنسان, أمر الله- تعالى- به, أو ندب إليه, أو حبب فيه, بل كل قول من هذا هو عمل صالح, بل تتسع الدائرة في العمل الصالح لتشمل كل استجابة لما نهي الله عنه, أو كرهه, أو بغض فيه, ومن هنا تدرك إلي أي مدي يتسع مجال العمل الصالح ,وإذا تسلح الناس بالإيمان والعمل الصالح كان ذلك قواما لصلاح أمور الأمة, وسببا من أسباب نجاحها وخلاصها, بل كان مبررا لأن تكون الأمة أهلا لأن يستخلفها الله في الأرض, ويمكن لها دينها الذي ارتضي لها, ويملأ قلوبها أمنا وطمأنينة, بل إن الإيمان والعمل الصالح يجلب كل خير, ويدفع كل شر, علي مستوي الفرد, والأسرة, والمجتمع, والأمة المسلمة كلها, ....... فالإيمان والعمل الصالح يؤديان إلي الاستخلاف في الأرض, والتمكين لدين الله في الأرض, والأمن والأمان, ومع العمل الصالح وحده دون إيمان, يمكن أن يكون سلطان, وجاه, وتقدم, وعمران مادي موقوت, هذه سنة الله في خلقه في الذين خلوا, وفي الذين يعيشون الحاضر, وفي الذين يعيشون مستقبل الأيام )(), والملاحظ في توصيف آية النور لعمل الصالحات بل معظم الآيات التي تناولت وصف العمل بالصلاح أنها وصفته وصفا عاما, مطلقا, شاملا, حتى يستوعب هذا العمل كل مفردات الحياة, ولا يكون صالحا إلا بضوابط راسخة, ومعايير ثابتة يتفق عليها العاملون, وليس هناك معيار أكثر ثباتا من منهاج الله –تعالى- بمصدريه الكتاب والسنة.
المبحث الرابع:الربانية
من أسس التمكين الذي يقيم دولة مكينة وحضارة قويمة الربانية, تلك التي تجعل الإنسان موصول الأسباب بربه, يأتمر بأمره, وينتهي بنهيه, ويقف عند حدوده وإرشاداته وتوجيهه, فيستمر تمكينه في الأرض مادام مستمرا على تلك الصلة العليا التي تصل الأرض بالسماء, تضاء بها, وتسعد بالسير على دربها, وقبل أن ندلف إلى الربانية في حياة أهل التمكين لابد لنا من إطلالة سريعة على معنى الربانية وأهدافها وفوائدها فنقول:( الرباني هو الموصوف بعلم الرب وهو العالم المعلم الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كباره, وهو العالم الراسخ في العلم والدين)(), ويقول ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر: (الرباني هو المنسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة)(), وفي القاموس المحيط: (الرباني هو المتأله العارف بالله – عز وجل-)(), يقول ابن كثير عند تناوله قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)():(أي يقول الرسول للناس كونوا ربانيين. قال ابن عباس, وأبو رزين وغير واحد أي حكماء علماء حلماء, وقال الحسن وغير واحد: فقهاء, وكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس وعن الحسن أيضا يعني أهل عبادة وأهل تقوى)().
ونلحظ هنا أن الإنسان الرباني هو الذي يمزج بين العلم والعمل فيكون فقيها عالما بدينه عاملا بما فيه من أوامر ونواهي, وهذه تدل على الصلة الوثقى بينه وبين ربه- عز وجل- مصدر التمكين ومصدر التوجيه والإرشاد, وكما ينتسب الإنسان إلى مذهبه فيقال: شافعي, أو حنفي, أو مالكي, أو حنفي, وينسب إلى قبيلته فيقال: عدناني, أو قرشي, أو أموي, وينتسب إلى بلده فيقال: مصري أو شامي لوجود الصلة بينه وبين هذه الأشياء التي انتسب إليها فكذلك يقال لوجود الصلة بينه وبين ربه- - يقول الإمام القرطبي في تفسيره: (الرباني المنسوب إلى الرب .. وهو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وهو العالم بدين الله الذي يعمل به)(), ويرى الطاهر بن عاشور أن النسبة إلى الشيء تكون لمزيد اختصاص فالنسبة إلى الرب لمزيد اختصاص العبد بالرب فيقول عند تفسيره قوله تعالى:(ولكن كونوا ربانيين): (أي ولكن كونوا منسوبين للرب, وهو الله تعالى؛ لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه والمعنى: أن يكونوا مخلصين لله دون غيره, والرباني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال:اللحياني لعظيم اللحية, والشعراني لكثير الشعر وقوله: (بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) أي: لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة؛ فإن فائدة العلم العمل)() ومن ينظر في سبب نزول الآية يدرك أنها نزلت لتخلص العبادة لله- تعالى- وحده دون من سواه فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول...
من هنا ندرك أن الربانية هي أن يكون العبد منسوبا في حركته وفعله وفي فكره وعمله إلى ربه سبحانه وتعالى, فإن نطق فعن الله وإن سكت فمع الله وإن نظر فإلى آثار الله, فيكون كله لله رب العالمين, من هنا ندرك سر هذا الدعاء المأثور:(اللهم اجعل نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرا)(),ليكون كله في حالاته كلها لله .
وإذا انتقلنا إلى نماذج التمكين في الأرض تلك التي عني القرآن بذكرها, وبدأنا بنبي الله يوسف - - وجدنا معلم الربانية من المعالم الرئيسة البارزة التي تدور عليها حياته بل هي محضن البيئة التي نشأ فيها قبل بيعه وغربته وبعده عن أهله وذويه.
يوسف والبيئة ربانية:
لقد نشأ يوسف - - في بيت النبوة والعلم, فتشرب الربانية من أبيه نبي الله يعقوب - - وتلمح هذه الربانية لدى يعقوب في مواطن متعددة..تلمحها أول ما تلمحها في وصيته لولده أول وصية عندما قص عليه ما رآه من سجود الكواكب والشمس والقمر لما رآهم له ساجدين فقال يعقوب: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم)(), فتلمح(وكذلك يجتبيك ربك) بما تحمله لفظة الاجتباء ولفظة الربوبية من قرب يعقوب - - وآله من ربه, وفي تذييل الآية الكريمة: (إن ربك عليم حكيم) ما فيه من دلالات الربانية التي تثري هذه البيئة الطيبة.
(إن يعقوب تتجلى في قلبه حقيقة باهرة عميقة لطيفة مأنوسة, في كل موقف, وفي كل مناسبة, وكلما اشتد البلاء شفت تلك الحقيقة في قلبه ورفت بمقدار ما تعمقت وبرزت, فمنذ البدء ويوسف يقص رؤياه يذكر ربه ويشكر نعمه, وفي مواجهة الصدمة الأولى في يوسف يتجه إلى ربه مستعينا به:( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)() وفي مواجهته مع عاطفة الأبوة الخائفة على أبنائه وهو يوصيهم ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة, لا ينسى أن هذا التدبير لا يغني عنهم من الله شيئا, وأن الحكم النافذ هو حكم الله وحده, وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من الله وقدره, (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)().
وفي مواجهة الصدمة الثانية في كبره وهرمه, وضعفه وحزنه, لم يتسرب اليأس من ربه لحظة واحدة إلى قلبه, (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)(), ثم تبلغ الحقيقة في قلبه درجة البهاء والصفاء وبنوه يؤنبونه على حزنه على يوسف وبكائه إياه حتى تبيض عيناه من الحزن فيواجههم بأنه يجد حقيقة ربه في قلبه كما لا يجدونها ويعلم من شأن ربه مالا يعلمون فمن هنا اتجاهه إليه وحده وبثه وشكواه له وحده وابتهاله ونجواه له وحده ورغبته ورجاؤه لا يكون إلا في رحمته وَروحِه (وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)().
ولقد ذكرهم بما يعلم من شأن ربه وما يجده من حقيقته في قلبه وهم يجادلونه في ريح يوسف وقد صدَّق الله فيه ظنه وكان الكون كله في معيته لأنه في معية رب الكون,(ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون)()؛ إنها الصورة الباهرة لتجلي حقيقة الإلوهية في قلب من قلوب الصفوة المختارة وهي تحمل الإيحاء المناسب لفترة الشدة في حياة الجماعة المسلمة في مكة كما أنها تحمل الإيحاء الدائم بالحقيقة الإيمانية الكبيرة لكل قلب يعمل في حقل الدعوة والحركة بالإسلام على مدار الزمان أيضا)(), نعم إنها تحمل عمق الحقيقة الإيمانية الكبرى حقيقة الربانية واعتماد العبد على سيده ومولاه عند نزول المحن وورود الشدائد الصعاب بل في أموره كلها صغيرها وكبيرها على حد سواء لقد عاش يوسف - - في حضن هذا الأب الرباني العظيم الذي ربط حياته كلها بربه ومولاه وصدر في فرحه وترحه عن تلك الحقيقة الإيمانية الكبرى التي تشربها يوسف بعد وكانت في حياته سببا من أسباب التمكين وعنصرا من عناصره كما سنرى.
الربانية في حياة يوسف - -
لقد عاش يوسف- كما عرفنا – في بيت النبوة والعلم وتشرب هذه الملامح وتلك الخلال منذ يفاعته وصباه, وتحرك بها في حياته فكانت أثرا فاعلا في تمكينه في الأرض, وإذا أردنا أن نتتبع ذلك وجدناه في الملامح الآتية:
الملمح الأول: في موقفه من امرأة العزيز.
في ذلك الظرف الحرج الذي تخور فيه الأعصاب, وتهور فيه المفاصل والأوصال؛ شاب في عنفوان الشباب, وفي مكتمل النضارة والجمال, وامرأة طالبة لا مطلوبة, في بيتها الذي هيأته وأعدته, وهي سيدة القصر, الأمر أمرها والنهي نهيها, (وغلقت الأبواب وقالت هيت لك)(), لكن يوسف الذي عقد صلة بينه وبين ربه لا يحيد عن دربه, ولا يسلك غير سبيله, يقف وقوف الجبل الأشم, لا تهزه الأعاصير المغرية, ولا تلفته الفتن الماضية, يقف ليقول في صورة نادرة المثال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)(), لذلك لم يتركه ربه ولم يخله, فأجابه فصرف عنه السوء والفحشاء (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)().
الملمح الثاني:موقفه في اجتماع النسوة.
عندما اجتمع النسوة مع امرأة العزيز, في تلك البيئة الناعمة, بيئة الحكام والملوك, وعرضت امرأة العزيز للمرة الثانية نفسها بين تهديد ووعيد, ودعت المرأة ضيفاتها, وحرصت أمامهن على إظهار هذا الاستعصام من هذا الشاب العجيب فقالت:(فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين)() , وهنا صاح يوسف مستعينا بربه, بل مستغيثا به من هول ما يرى (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)().
الملمح الثالث:موقفه من كلام صاحبيه في السجن.
إنك تلمح ارتباط يوسف- - بربه في كل محنة تنزل به, وفي كل نعمة تأتيه, وفي كل فضل يتميز به على غيره, عندما قال له صاحباه في السجن: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)() نسب تلك المهارة التي من الله عليه بها وفضَّله بها على من سواه إليه فقال:( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون)(), إنه ينسب هذا العلم إلى ربه ومولاه؛ ليبين لهم أنه موصول الصلة بالله- - في كل خطوة من خطواته, وحركة من حركاته, وسكنة من سكناته, (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)() نسبة لكل ما لديه إلى الله .
الملمح الرابع:في موقفه مع رسول الملك.
يظهر معنى الربانية بجلاء ووضوح كذلك من كلام يوسف لرسول الملك الذي جاءه ليخرج من السجن, فأخبره يوسف أنه لن يخرج حتى يتأكد الملك من كلام النسوة, وصور القرآن ذلك بقوله: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)()وفي إضافة الرب إلى ضمير المتكلم ما فيه من قوة النسبة ووضوح الصلة بينه وبين الله .
الملمح الرابع:في موقفه مع إخوته بعد معرفتهم له.
يبدو ذلك في نهاية المطاف وفي لحظات العتاب مع إخوته بعد أن عرفوا أن الله – – أظهره عليهم, وقد جاءوا بعد هذه السنين الطوال يمتارون من عنده, (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)(), (قد من الله علينا) بهذه الصيغة الدالة التي تشي بمدى شكر يوسف- - لله - – , وإدراكه لنعمته عليه, وفي ذلك ما فيه من إظهار هذه الشخصية بتلك السمة سمة الربانية التي كانت سببا من أسباب التمكين في أرض مصر, ( لقد دخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة وقد أضرت بهم المجاعة, ونفدت منهم النقود, وجاءوا ببضاعة رديئة, هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد, يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل, وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام ...[ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين](), وعندما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا يبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز, والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته, فقد انتهت الدروس, وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال, فإذا هو يرفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم ولم يطلع عليه أحد إلا الله [ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون](), ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته, ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته, والتمع في نفوسهم خاطر بعيد [قالوا أئنك لأنت يوسف]() أئنك لأنت؟ فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير, [قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين](), مفاجأة عجيبة يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجاهلية, ولا يزيد... سوى أنه يذكر منة الله عليه وعلى أخيه, معللا هذه المنة بالتقوى, والصبر, وعدل الله في الجزاء, أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوه بيوسف, ويجللهم الخزي والخجل, وهو يواجههم محسنا إليهم وقد أساءوا, حليما بهم وقد جهلوا, كريما معهم وقد وقفوا منه موقفا غير كريم )(), إن كل نعمة تصل إلى يوسف وكل محنة تمر به يربطه بها صلة بالله لا تنقطع, في السراء والضراء, في وقت الشدة وفي وقت الرخاء, لا يلتفت إلى سبب المحنة أنه آذاه بل يرى أن ذلك هو قدر الله النافذ, وحكمه الماضي الذي لا يتخلف, ولا يرى في النعمة أنها بكسب وجهد, بل يرى أنها منة من الكريم المنان, فلا يصرفها إلا في سبيله, ولا يوظفها إلا في طاعته, وتلك سمة العبد الرباني أينما حل أو ارتحل.
الملمح الخامس: في عفوه عن ظالميه بعد قدرته عليهم.
من ملامح الربانية لدى يوسف أنه عندما قدر وأمكنه أن يأخذ حقه من إخوته الذين آذوه ضعيفا, وظلموه صغيرا, وهو أحوج ما يكون إلى برهم وعونهم, وليس ذلك لشيء, إلا لحسن جماله, وروعة بهائه, كأنه صاحب جريمة ينبغي أن يتوب منها, أو ذنب يجب عليه أن يتخلى عنه, وصدق من قال:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبا فقل لي: كيف أعتذر()
عندما تمكن يوسف من إخوته هؤلاء الذين هم أولى الناس به, وأقرب الناس إليه, وظلمهم آلم, وغدرهم أوجع, كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند()
عندما تمكن قال قولة صارت مثلا يتعلمها الناس من بعده, [لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين](), لا مؤاخذة لكم, ولا عتب عليكم, الله يتولانا ويتولاكم, ويغفر لنا ولكم وهو أرحم الراحمين, وهذا سمو الشخصية الربانية التي يُمَكِّن الله لها في الأرض, حتى تغرس القيم في نفوس الناس, وتعلم البشرية كيف تكون الحياة.
الملمح السادس: في موقفه عند اجتماع شمل الجميع.
وذلك في قوله- بعد أن جمع الله الشتيتين, ولاقي بين يعقوب ويوسف وإخوته, في صورة عاطفة مشبوبة, بين غربة طال زمانها, ووحشة اشتد أوارها, ينطفئ كل ذلك بلقاء الأحباب والأهل والإخوان, فيقول يوسف: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)(), (يذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته [إن ربي لطيف لما يشاء], يحقق بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها ؛[إنه هو العليم الحكيم], ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة: [إن ربك عليم حكيم]؛ ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات)().
الملمح السابع: في تعقيبه على ما حدث له ورضائه به.
وفي نهاية المطاف بعد هذه الرحلة الطويلة, رحلة الألم والأمل, رحلة البلاء والعطاء, رحلة الاختبار الصعب والإنعام الوفير, الذي بلغ حد التمكين في الأرض الذي بيع فيها عبدا مملوكا بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ...بعد هذه الرحلة يقف يوسف ليحقق هذه الصفة في حياته, صفة الربانية, ونسبة كل فضل إلى المنعم العزيز الوهاب- سبحانه- فيقول بلسان العبد الذي عاش حياته كلها لله, في السراء والضراء, في وقت الشدة وفي وقت العطاء:
[ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين](), (رب قد آتيتني من الملك سلطانه ومكانه وجاهه وماله وذلك من نعمة الدنيا, [وعلمتني من تأويل الأحاديث], بإدراك مآلاتها, وتعبير رؤاها, فذلك من نعمة العلم, نعمتك يا رب أذكرها وأعدها, [فاطر السماوات والأرض], بكلمتك خلقتها, وبيدك أمرها, ولك القدرة عليها وعلى أهلها, [أنت وليي في الدنيا والآخرة], فأنت الناصر والمعين, تلك نعمتك, وهذه قدرتك, رب إني لا أسألك سلطانا, ولا صحة, ولا مالا, رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى, [توفني مسلما وألحقني بالصالحين], وهكذا يتوارى الجاه والسلطان, وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان, ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد, يبتهل إلى ربه, أن يحفظ له إسلامه, وأن يلحقه بالصالحين بين يديه؛ إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير.)()
وهكذا تبدو شخصية يوسف الملك الصالح, والعبد الرباني المنيب, من بداية السورة إلى آخرها, مرورا بأحداث القصة: حدثا, حدثا, وموقفا, موقفا, كل موقف يزداد شدة تزداد فيه هذه السمة وضوحا وبيانا, ولم لا؟ وهو ربيب بيت النبوة, وسلالة الصالحين؛ لذا مكنه الله تمكينا لافتا للنظر, فقد انتقل يوسف من مرحلة أن يكون عبدا يباع في الأسواق, إلى أن يكون عزيز مصر يَمُنُ على الناس في أخص مقومات حياتهم, في أقواتهم, وطعامهم, وليس بعد هذا من تمكين.
ذو القرنين والربانية.
وإذا انتقلنا إلى نموذج ذي القرنين, العبد الصالح الذي أقام ملكه على منهاج الله--, ودعم فتوحاته على غرس القيم والمبادئ, ونشر الفضيلة, ومحاربة الفساد في شتى صوره, ومختلف أشكاله, وجدنا سمة التمكين في حياته أساسا من أسس تمكينه, ودعامة من دعامات رسوخه في الحكم والملك, لقد اتضحت سمة الربانية في حياة ذي القرنين منذ البداية, وهو يُسأل عن دستوره في الحكم, ومنهاجه في الفصل والقضاء, فأعلنها راسخة تعلم الأجيال على مر الأعصار (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)(), وبهذا فصَّلَ منذ البداية منهاجه, في الحكم وأنه رباني في الفصل والقضاء, يمضي بمنهاج الله, ويسير على دستوره وشرعه, (وهذا هو دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء, وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه حسنا ومكانا كريما وعونا وتيسيرا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة إلى سوط عذاب, وأداة فساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد)(), ولقد كان ذو القرنين مثال الحاكم الصالح, والملك العادل, الذي يرجع إلى الله في كل صغيره وكبيره, وتلك سمة الرجل الرباني, الذي ينسب في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته إلى ربه- -.
ونلحظ معنى الربانية بوضوح وجلاء لدى ذي القرنين في نسبته كل فضل إلى ربه, اذكره عندما انتهى من بناء السد, وتمكن من السيطرة على يأجوج ومأجوج, الذين يفسدون في الأرض, فقال بعد اطمئنان إلى هذا العمل الصالح: (هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا)().(لقد نظر ذو القرنين إلى هذا العمل الضخم الذي قام به فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه, وتبرأ من قوته إلى قوة الله - - وفوض الأمر إليه ... لقد كان ذو القرنين -بحق- نموذجا طيبا للحاكم الصالح الذي يمكنه الله في الأرض, وييسر له الأسباب, فيجتاح الأرض شرقا وغربا, ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر, ولا يطغى, ولا يتبطر, ولا يأخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان, ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق, ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه, إنما ينشر العلم في كل مكان يحل به, ويساعد المتخلفين, ويدرأ عنهم العدوان, دون مقابل, ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير, والإصلاح, ودفع العدوان, وإحقاق الحق, ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله, ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته, وأنه راجع إلى الله)(), وتلك حال أهل الصلاح والتمكين (إذا من الله عليه بالنعم الجليلة ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله, كما قال سليمان - - لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم: [هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر]() بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض, فإن النعم الكبار تزيدهم أشرا وبطرا, كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:[إنما أوتيته على علم عندي]() )(). وهكذا تبدو المفارقة واضحة بين إنسان ينسب النعمة كل نعمة إلى ربه - -؛ لأنه يعيش في خيره, ويحيا على هداه, وإنسان كنود جحود ينكر أظهر النعم, ويظن أنه رزقها لمهارة عنده, أو ملكة لديه.
الفصل الرابع: أهداف التمكين.
تدور أهداف التمكين الذي يعتبر غاية مرحلية لغاية كبرى هي إرضاء الله من خلال تحكيم شرعه وتطبيق منهاجه ودستوره...تدور أهدافه حول إسعاد الإنسان, ذلك الذي استخلفه الله في أرضه, ليقيم فيها منهاجه, باسمه.
وهذه الأهداف التي يسعى التمكين لإقامتها هي عنصر الأمان وصمام السلامة للإنسان, مطلق إنسان,وتلك الأهداف منها ما يضبط العلاقة بين الإنسان وربه, وذلك ما لخصه القول الإلهي الكريم: (أقاموا الصلاة) ومنها ما يضبط العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان, وذلك ما يشمله قوله تعالى: (وآتوا الزكاة), ومنها ما يعمل على توازن المجتمع واتزان الحياة دون حيدان أو ميدان من وجهة إلى وجهة ومن معنى إلى معنى,وذلك ما يلخصه قوله تعالى:(وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر),ومنها ما يشيع الرخاء والهناء في ربوع الأرض وذلك من خلال تطبيق المنهاج الرباني(أما من ظلم ....وأما من آمن..), ونشر القيم الصحيحة وإزاحة الفساد عن وجه الأرض حتى تعود مرة أخرى نقية كما أرادها الله- - (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة)
وقبل الحديث عن أهداف التمكين نتعرف معنى الهدف فنقول: (والهَدَفُ : كل شيء عريض مرتفع . وأَهْدَفَ الشَّيءُ إذا انتصَبَ . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مّر بهَدَفٍ مائل أو صدفٍ مائل أسرع المشي)()
وتدور هذه المباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: إقام الصلاة, أو فقه العلاقة بين الإنسان والرحمن.
المبحث الثاني: إيتاء الزكاة, أو فقه العلاقة بين الإنسان والإنسان.
المبحث الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو التوازن المجتمعي.
المبحث الرابع: إقامة العدالة ونشر القيم.
المبحث الأول:
إقامة الصلاة, أو فقه العلاقة بين الإنسان والرحمن.
(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)
الصلاة صلة بين العبد وربه,ووسيلة القرب التي فرضها الله تعالي في السماء
لشرف منزلتها,وعلو قدرها,وقد حفلت آيات القرآن الكريم بالحديث عن فضلها وذكر أصحابها في القرآن الكريم ما يزيد عن تسعين مرة تارة بالأمر بها كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )() وتارة يوصف أهلها بأنهم هم المتقون ( الم ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )() وتارة بإرشاد المسلمين إلى الاستعانة بها على نوازل الدهر ومحن الأيام (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ) () وتارة بوصف الرجال الذين اكتملت رجولتهم بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله, كقوله – تعالى-: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)(), إلى غير ذلك من صور ورودها في القرآن الكريم.
وقد حفلت آية سورة الحج بذكر إقام الصلاة باعتبار ذلك هدفا من أهداف التمكين وذلك في قوله – تعالى-: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور)().
والناظر في هذه الأوصاف يلحظ مدى أهمية الصلاة وعناية القرآن بها في ذكرها وفي الأوامر الواردة بشأنها وفي طريقة فرضها, لقد فرضت العبادات جميعها في الأرض وفرضت الصلاة مكانا في السماء, وزمانا في ليلة الإسراء والمعراج, مما يدل على فضلها وعظيم شرفها, (إن الحكومات تستدعي سفراءها في الأمور الحاسمة التي لا تغني فيها المراسلة عن المشافهة, فإذا استدعى الله – سبحانه- رسوله وعرج به إلى السماوات ليخاطبه بفرض الصلوات كان ذلك برهانا ناطقا على سمو منزلة الصلاة وأهميتها عند الله)().
المراد من إقامة الصلاة
إقامة الصلاة غير أداء الصلاة , فالإقامة تعني الإتيان بها كاملة شاملة على الوجه الذي أراده الله - - والإتيان بها بإقبال يثمر عملا وينتج صلة وثقى مع الله( إن إقامة الصلاة ليست عبارة عن أدائها مطلقا وإنما هي عبارة عن القيام بحقوقها الروحية في صورتها العملية وذلك بالتوجه إلى الله ومناجاته والانقطاع إليه عما عداه وإشعار القلب عظمته وكبرياءه فبهذا الشعور ينمو الإيمان وتقوى الثقة بالله وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش والمنكرات وتنير البصيرة فتكون أقوى نفاذا في الحق وأشد بعدا عن الأهواء)(), فالصلاة المطلوبة إذا ليست هي الصلاة الجوفاء الشوهاء التي لا تصل صاحبها بربه ولا تقيم علاقة وثقى بينه وبين مولاه, تلك الصلاة التي ينقرها صاحبها نقر الديك ويخطفها خطف الغراب, وينتهي منها دون أن يدري ماذا قرأ أو سمع, وماذا أفاد أو استزاد, إن الصلاة المطلوبة هي التي تعين صاحبها على التغيير والإصلاح والترقي في مدارج الكمال والتهذيب حتى يصير صاحبها نموذجا للرجل القرآني الرباني الذي يتخلق بأخلاق القرآن ويمضي على سناه, ولعل في تعبير القرآن في أمره بالصلاة ما يشعر بمدى ما تسكبه الصلاة الصحيحة في نفس صاحبها من المعاني والقيم التي بدونها لا تستقيم الدنيا ولا يصلح أمر الحياة, إن الله تعالى يقول: (حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)(), فإن لفظ الحفظ غير لفظ المحافظة, وكأن الحفاظ متبادل بين الإنسان والرحمن, وتلك هي العلاقة التي تنشئها الصلاة الفاعلة المؤثرة (فوجه اختيار لفظ المحافظة على الحفظ أن الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ وهي هنا بين العبد وربه, كأنه قيل: احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها, كقوله: [فاذكروني أذكركم]() أو بين المصلي والصلاة نفسها, أي: احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنها, ومن البلاء والمحن, بتقوية نفوسكم عليها, كما قال تعالى: [واستعينوا بالصبر والصلاة]())() .
العلاقة بين إقامة الصلاة ودوام التمكين
إن الناظر في الصلاة وأركانها وأسرارها وترتيبها يدرك العلاقة الوطيدة بين الصلاة والنصر الذي يؤدي إلى التمكين, وبينها وبين دوام التمكين والحفاظ عليه؛ ذلك أنها تربي المسلم تربية قوية قويمة على ملامح ومعالم يحتاجها جندي التمكين أنى كان موقعه, فتربيه على النظام والانضباط يأتمر وينتهي, تعلمه المساواة فلا مفاضلة بين إنسان وإنسان إلا بالسبق والتبكير, ومنها يتعلم الخضوع والانقياد, دون أن يكون هذا الانقياد انقيادا أعمى بل انقياد على بصيرة وعلم, يسمع المأموم من إمامه ويتابعه ما دام على صواب فإن خلط أو أخطأ فله بل عليه أن يرده ويقوم خطأه, (وفي الجماعة نوع من التربية العسكرية التي قوامها الطاعة والنظام, فما أحوج الأمم الناشئة –كالعرب في أيام الرسول () أن يتعلموا عمليا طاعة الأمر والانقياد للنظام والخضوع للقانون, واحترام الرؤساء. وهذا ما تصنعه صلاة الجماعة, وهل رأيت نظاما أكمل وأجمل من صفوف الجماعة, وقد وقفت مستقيمة فلا عوج, متلاصقة فلا فرجة, المنكب إلى المنكب والقدم إلى القدم, ينذرهم إمامهم بأن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج, ويعلمهم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة, وتمامها. فإذا كبر الإمام كبروا, وإذا قرأ أنصتوا, وإذا ركع ركعوا, وإذا سجد سجدوا, وإذا سلم سلموا, ومن خرج على هذا النظام فكأنما خرج على نظام الإنسانية, يقول الرسول ( ): ألا يخشى إذا ركع أحدكم أو سجد قبل الإمام أن يمسخ الله رأسه رأس حمار.)().
إن الصلاة صورة متقاربة من الخلافة ونظام الدولة,ففي الصلاة إمام ومأموم, وفي الدولة الراعي والرعية, والعلاقة بين الإمام والمأموم هي العلاقة بين الراعي والرعية, فالمأموم لا يتقدم على إمامه, والفرد لا يتقدم على خليفته, وإن أخطأ الإمام فعلى المأموم أن يصوبه, والرعية مطالبة بالسمع والطاعة للإمام فإن أخطأ قومت عوجه, وأصلحت خطأه, وبوجود الإمام ينتظم خيط الجماعة, وبوجود الخليفة تعصم الأمة من الفتن, وتحفظ من الشتات والضياع,وإذا تتبعنا صور المقارنة وجدنا التقارب البديع بين الصورتين مما يدفع المؤمن أن يعيش معنى الصلاة بهذه الروح التي تعلي فكره كما تعلي روحه وخلقه.
إن الصلاة تعلم المسلم الحرية التامة التي ينطلق فيها من كل قيد إلا قيد العبودية لله, كما تعلمه الإخاء فلا تمايز بين عبد وعبد إلا بمدى قربه من الله وإقباله عليه, وتعلمه التواضع والالتزام بمقاييس الدين ومعايير الإسلام, وهذه هي أسس النصر ومعالم التمكين, فلا نصر بغير انضباط, ولا تمكين بغير حرية ومساواة وانضباط, يقول الشيخ محمد عبده عند تناوله قوله تعالى: [فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير]() (إن بعد الوعد بالنصر والإرشاد إلى الاعتماد فيه على القدرة دلهم على بعض وسائل تحققه وهي: الصلاة التي توثق عروة الإيمان وتعلي الهمة وترفع النفس بمناجاة الله العلي الكبير وتؤلف بين القلوب بالاجتماع عليها والتعارف في مساجدها والزكاة التي تصل بين الأغنياء والفقراء وتتكون باتصالهم وحدة الأمة حتى تكون كجسم واحد فعال, (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ...إن نفوس المصلين جديرة بالنصر لما تعطيه الصلاة من القوة المعنوية والثقة بقدرة الله- تعالى- فإذا كان قوله – تعالى- بعد الوعد بالنصر (إن الله على كل شيء قدير) دليلا أيد به الوعد فقوله ( وأقيموا الصلاة ) هداية إلى طريق الاقتناع التام بهذا الدليل, حتى يكون وجدانا للنفس لا تزلزله الشبهات ولا تؤثر فيه المشاغبات والمجادلات, وقد مضت سنة القرآن بقرن الزكاة والصلاة؛ لأن الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد والزكاة لإصلاح شؤون الاجتماع, ثم إن فيها من معنى العبادة ما في الصلاة؛ فإن المال كما يقولون شقيق الروح,فمن جاد به ابتغاء مرضات الله تعالى كان بذله مزيدا في إيمانه فهي إصلاح روحي أيضا)().
إن إقامة الصلاة بالصورة التي أرادها الله -تعالى- شرط الله على الممكن في الأرض, فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى:( الذين إن مكناهم في الأرض) قال: ( هذا شرط شرطه الله على هذه الأمة)(), والكلام في الآية مرتب على النصر والتمكين, وفيه إشارة إلى أنه( مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوام نصرهم وانتظام عقد جماعتهم, والسلامة من اختلال أمرهم فإن حادوا عن ذلك فقد فرطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله, فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد مفعوله في النفوس, وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم, وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.)()
وخلاصة الأمر أن إقامة الصلاة توثق العلاقة بين العبد وربه, فييسر له دوام التمكين ويمن عليه باستمراره, ولو عاش العبد فقه الصلاة لعاش فقه العلاقة بينه وبين ربه, وساعتها تدوم عليه نعمة التمكين والاستقرار.
المبحث الثاني:
إيتاء الزكاة, أو فقه العلاقة بين الإنسان والإنسان.
(وآتوا الزكاة)
كما عني الإسلام بالصلاة, وربطها بواقع المسلمين, عني بذكر الزكاة, وأكد وجوبها, فقال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)(), (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم نعم المولى ونعم النصير)(),وجعلها الله مطلبا من مطالب التمكين, وهدفا من أهدافه, حتى يستمر ويدوم فقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا هن المنكر ولله عاقبة الأمور)(),إن الزكاة فريضة اجتماعية تؤلف بين الغني والفقير وتقرب المسافة النفسية والمادية بين كليهما, حتى يمضي المجتمع في توازن واعتدال, فلا يكون المال دولة بين الأغنياء منهم يموت بعضهم من التخمة ويتلوى بعضهم من المخمصة.
منزلة الزكاة وأهميتها
والزكاة طهارة للنفس والقلب, للغني والفقير والمجتمع بأسره, فهي طهارة للغني الذي يشعر أن له واجبا يؤديه تجاه مجتمعه,(فالإنسان الذي يسدي الخير ويصنع المعروف ويبذل من ذات نفسه ويده لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية وليقوم بحق الله عليه يشعر بامتداد في نفسه وانشراح في صدره ويحس بما يحس به من انتصر في معركة وهو فعلا قد انتصر على ضعفه وأثرته وشيطان شحه وهواه فهذا هو النمو النفسي)() ...والزكاة أيضا نماء لشخصية الفقير حيث يحس أنه ليس ضائعا في المجتمع ولا متروكا لضعفه وفقره ينخران فيه حتى يوديا به ويعجلا بهلاكه, كلا ..إن مجتمعه ليعمل على إقالة عثرته ويحمل عنه أثقاله, ويمد له يد العون بكل ما يستطيع, وهو في ذلك لا يتناول الزكاة من فرد يشعر بالاستعلاء عليه, ويشعر هو بالهوان أمامه, بل يأخذ حقه من الدولة حرصا على كرامته أن تخدش, ولو قدر للأفراد أن يكونوا هم المعطين بأنفسهم فالقرآن يحذرهم من المن والأذى(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)(), بهذه الصورة يستطيع المجتمع أن ينهض ويقوى بكل فرد فيه الغني يعطي بلا من ولا أذى والفقير يأخذ حقه دون توار أو انخناس.
علاقة الزكاة بالتمكين ودوامه:
إن الناظر في الزكاة وآثارها في المجتمع يدرك مدى أثر هذه الفريضة الاجتماعية في الترابط بين الناس, ومدى غرسها لروح التكافل والضمان الاجتماعي الذي من خلاله يستمر التمكين ويستقر الأمن الاجتماعي بين الناس (إن الإسلام يمتاز على جميع الأديان والشرائع بفرض الزكاة فيه, ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وجد فيهم – بعد أن وسع الله عليهم في الرزق- فقير مدقع ولا ذو غرم مفجع, ولكن أكثرهم تركوا هذه الفريضة فجنوا على دينهم وأمتهم, فصاروا أسوأ من جميع الأمم حالاً في مصالحهم المالية والسياسية, حتى فقدوا ملكهم وعزهم وشرفهم وصاروا عالة على أهل الملل الأخرى حتى في تربية أبنائهم وبناتهم.... إن إيتاء جميع المسلمين أو أكثرهم للزكاة وصرفها بانتظام كاف لإعادة مجد الإسلام بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام وإنقاذ المسلمين من رق الكفار, وإننا نرى الشعوب التي سادت المسلمين بعد أن كانوا سادتهم يبذلون أكثر من ذلك في سبيل أمتهم وملتهم, وهو غير مفروض عليهم من ربهم)().
والناظر في أمر الزكاة يجد أنها تربط المجتمع برباط قوي, فإن الغني يرد إلى هذا المجتمع الذي أعانه على تثمير ماله وإنمائه فإنه لم يكسب هذا المال بمفرده, وإنما شاركه في ذلك من حوله من المجتمع, وهو يرد إليه هذا الفضل, والفقير يشعر بكفالة المجتمع الذي يعيش فيه, فلا يشعر بأنه وحده في محنة الفقر وشدة الفاقة, إنما حوله مجتمع يؤازره ويعززه ويقويه, ويأخذ بيده إلى طريق السداد والغنى, وعندما تشيع تلك الروح في مجتمع تشيع فيه روح الأمان والاطمئنان الذي يولد الإقدام والشجاعة والله تعالى يقول: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً)(), فقد أمرهم الله تعالى بأنهم إذا خافوا على أولادهم من الضياع أن يتقوا الله ويقولوا قولا سديداً, وعندما يتقي الله أفراد المجتمع ويقولون القول السديد لن يوجد بينهم ضائع ولا فقير ولا معوز؛ لأن الجميع سيعد هذا الذي فقد أباه ابنا له وسيعد الفقير الذي لا مال له أخا فتتماسك قوى الأمة, ويعظم شأنها, وتعلو كلمتها في العالمين يدوم تمكينها ويستقر أمنها, وتنشر رسالة الله في أرضه وعلى ضوء منهاجه.
المبحث الثالث:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو التوازن المجتمعي.
(وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أداة التوازن المجتمعي, والاعتدال الذي به تمضي سفينة الحياة وبدونه لا يستقر مجتمع,ولا تنهض أمة فهو صمام الأمان والعاصم من التردي والهوى, كما أنه فريضة قرآنية وضرورة حياتية, فريضة قرآنية للأوامر المتوالية والإرشادات المتتابعة للأمة المسلمة أن تتواصى بالصبر وتتواصى بالمرحمة, والله تعالى يقول: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(), وجعلها الله تعالى سبب خيرية الأمة في قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(), إلى غير ذلك من الأوامر التي وردت في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والآيات التي تحذر من مغبة ترك التناصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(),وهو ضرورة مجتمعية: فالإنسان بطبعه يحتاج لمن يأخذ بيده إلى الهدى, ويرده عن الردى, ويهديه إلى صراط الله المستقيم.
وقد شرط الله على الأمة التي يمكنها أن تقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر, فقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)(),يقول الضحاك – رحمه الله- (هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك وهذا حسن قال سهل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه, ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم)(),وفي انتداب الله تعالى بعض الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يشعر بأن هذه الفئة هي صمام الأمان لباقي الأمة من الضياع, وذلك في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة)وقد قال الإمام القرطبي –رحمه الله-:( دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم :[ من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ]() وعن درة بنت أبي لهب قالت:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: [ من خير الناس يا رسول الله قال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه ]() وفي التنزيل:{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف }()وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)() فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين, فدل على أن أخص أوصاف المؤمن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه, ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه والتعزير إلى رأيه, والحبس والإطلاق له والنفي والتغريب, فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك, ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة قال الله تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر }().
المراد ب(الذين إن مكناهم)
والمراد من الموصول في الآية الكريمة أصحاب النبي ,وإن كان الأولى
صرفها إلى ما هو أعم من ذلك للمؤمنين في كل زمان ومكان, ما استجمعوا شروط التمكين وأسبابه, أن يطالَبوا بما طولب به أصحاب النبي من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويعني بقوله : { إن مكناهم في الأرض }: إن وطنا لهم في البلاد فقهروا المشركين وغلبوهم عليها, وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة أطاعوا الله فأقاموا الصلاة بحدودها وآتوا الزكاة : يقول : وأعطوا زكاه أموالهم من جعلها الله له { وأمروا بالمعروف } يقول : ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته, وما يعرفه أهل الإيمان بالله, { ونهوا عن المنكر } يقول : ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه الذي ينكره أهل الحق والإيمان بالله { ولله عاقبة الأمور } يقول : ولله آخر الخلق يعني : أن إليه مصيرها في الثواب عليها والعقاب في الدار الآخرة)() وقد عرف الصحابة المراد من هذا الموصول, فيذكر أمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه وأرضاه- أن المقصود بهؤلاء الموعودين بالتمكين والمطالبين بأهدافه هم أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم),ويذكر عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه وأرضاه أنهم الصحابة ومن صار على نهجهم فيقول عثمان –رضي الله عنه-: ( فينا نزلت { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله ثم مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : { الذين إن مكناهم في الأرض } الآية ثم قال : ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والمولى عليه ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم وأن يأخذ لبعضكم من بعض وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } وقوله : { ولله عاقبة الأمور } كقوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } وقال زيد بن أسلم { ولله عاقبة الأمور } وعند الله ثواب ما صنعوا)().
ويرى بعض الصحابة أن المراد بهم الخلفاء الأربعة, ويرى آخرون أنهم أهل الصلوات الخمس, يذكر ابن كثير ذلك فيقول:( { الذين إن مكناهم في الأرض } أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم وقال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان وقال قتادة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة : هم أهل الصلوات الخمس وقال الحسن و أبو العالية : هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة وقال ابن أبي نجيح : يعني الولاة وقال الضحاك: (هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك وهذا حسن قال سهل بن عبد الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له واجب عليه ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم)(), وخلاصة القول أن المراد بهم الخلفاء لأنهم أقاموا هذا الركن الركين من أركان الحفاظ على الأمة وهو ركن الأمر والنهي, وكل من سار على دربهم واقتفى آثارهم من أهل الصلوات الخمس على مدى الأزمان.
المراد من المعروف والمنكر
وقد ذكر المفسرون أن المراد بالمعروف: الأمر بلا إله إلا الله, والمراد بالمنكر: الشرك, وأنه ضمان النصر وداعية استمرار التمكين فقالوا في الآية:المراد (ولينصرن الله من ينصره وبالله لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم (إن الله لقوي): على ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم (عزيز): لا يمانعه شيء ولا يدافعه (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع وجوز أن يكون بدلا والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر والمراد بالأرض جنسها وقيل: مكة والمراد بالصلاة: الصلاة المكتوبة, وبالزكاة: الزكاة المفروضة, وبالمعروف: التوحيد, وبالمنكر: الشرك, على ما روي عن زيد بن أسلم ولعل الأولى في الأخيرين التعميم والوصف بما ذكر كما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء, يعني أن الله- تعالى- أثنى عليهم أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا : وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين- رضي الله تعالى عنهم-, وذلك على ما في الكشف؛ لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين؛ لأنهم المخرجون بغير حق, والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم, فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله- سبحانه- عنه.)(), فالمراد من الأمر بالمعروف الدعوة إلى توحيد الله –تعالى-والنهي عن المنكر النهي عن الشرك, فلا منكر أعظم منه,(وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : الذين إن مكناهم في الأرض قال : أرض المدينة أقاموا الصلاة قال : المكتوبة وآتوا الزكاة قال : المفروضة وأمروا بالمعروف بلا اله إلا الله ونهوا عن المنكر قال : الشرك بالله ولله عاقبة الأمور قال : وعند الله ثواب ما صنعوا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الله وحده وعبادته لا شريك له وكان نهيهم أنهم نهوا عن عبادة الشيطان وعبادة الأوثان)().
العلاقة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودوام التمكين.
لقد دل الله الأمة إلى التمكين وأسبابه وأرشدهم إلى شروطه وفوائده وعلمهم أهدافه وثماره, التي لا يدوم بغيرها ولا يستقر بسواها, ومن أبراز العوامل التي تديم التمكين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, سواء كان المراد من المعروف التوحيد أو مطلق المعروف, وسواء كان المراد من المنكر الشرك أو مطلق المنكر, فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورتيه ضمان دوام التمكين, وسر بقائه, لأنه عامل الصحة, وعلامة القوة في الأمة, وما ضعفت الأمة وما انفرط عقدها إلا بعد أن أهملت فريضة الأمر والنهي,وهذا ما تلمحه من ترابط الآيات الداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,وسر ترتيبها ومجيئها بعد الدعوة إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق, (فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها- سواء أكانت مؤمنة أم كافرة- فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم؛ لأنهم يعتقدون أن لهم إلها واحدا يرجعون في جميع شؤونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء, ويحول دون التفرق والخلاف, بل هذا هو ينبوع الحياة الاجتماعية لما دون الأمم من الجمعيات, حتى البيوت(العائلات) ولما كان لكل جامعة وكل وحدة حفاظ يحفظها أرشدنا – سبحانه وتعالى- إلى ما نحفظ به جامعتنا, التي هي مناط وحدتنا- وأعني بها الاعتصام بحبله فقال تعالى:[ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة وسياج الوحدة.)().
وسواء أكانت الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الجميع أو من فئة مؤهلة,وعلى اختلاف مراتب الأمر والنهي والدعوة,سواء كانت بين غير المسلمين لدعوتهم إلى الإسلام,أو بين المسلمين إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر, فإن هذه الدعوة وهذا التناهي والتآمر هما سياج الوحدة وصمام الأمان(أما كون الدعوة والأمر والنهي بين غير المسلمين حفاظ الوحدة,وسياجا دون الفرقة فهو ظاهر على الطريق الأول(وهو كونها بين المسلمين), فلو كان أهل البصيرة والفقه الحقيقي في الدين يعممون دعوتهم وإرشادهم في الأمة ويواصلونها لكانوا موارد لحياتها, ومعاقد لرابطة وحدتها, وكذلك على الطريق الثاني(وهو كونها بين غير المسلمين)؛ فإن أفراد الأمة إذا قام كل واحد منهم بنصيحة الآخر- دعوة وأمرا ونهبا – امتنع فشو الشر والمنكر فيهم, واستقر أمر الخير والمعروف بينهم, فكيف تجد الفرقة منفذا إليهم؟, أم كيف يستقر الخلاف في الدين بينهم؟, وناهيك إذا قاموا –كل على طريقه المستقيم- العلماء الحكماء في مساجدهم ومعابدهم وجميع الأفراد في منازلهم ومساكنهم ومعاهدهم)() وبذلك يتضح أن الدعوة والأمر والنهي ضمان استمرار التمكين واستقراره لذلك طالب الله – تعالى- به من يمن عليه بالتمكين حتى يدوم تمكينه في الأرض.
المبحث الرابع:
إقامة العدالة ونشر القيم.
(أما من ظلم...وأما من آمن),(ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوَّة)
من أهداف التمكين الرئيسة, ومتطلباته الأساسية, التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب: إقامة العدالة ونشر القيم التي لا تستقر البشرية بإنسانيتها إلا بها, ولا تسعد بدونها, وقد عرضت النماذج التي حملت راية التمكين هذه القيم الرائدة, كالعدالة التي يستوي أمامها الكبير والصغير والعظيم والحقير, ونشر القيم العامة, وإذا نظرنا إلى نماذج التمكين في الأرض وجدنا ذلك واضحا أي وضوح بينا أي بيان.
سليمان وإقامة العدالة ونشر القيم
وإذا انتقلنا إلى نموذج من نماذج التمكين, وهو سليمان وجدنا حرصه على إقامة العدالة التي هي صمام الأمان للدول والمجتمعات, إنه في موقفه مع الهدهد الذي غاب, بلا إذن وراح بلا خبر, لم يعاجله بالعقوبة, ولم يصادر عليه دون تحر ونظر, بل قال: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)(), ويبدو ذلك واضحا أيضا من خلال حوار سليمان مع الهدهد, وصبره الطويل على بيان هذا الجندي من جنوده, وهو يقول له: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم)(). إن سليمان لم يعاجل هذا الجندي بقرار (عسكري) يرمي به خلف السجون, ولم يعاجله بالعقوبة قبل أن يسمع بيانه, ودفاعه, ووجهة نظره في القضية, ( فلعل له عذرا وهو يلوم), أو بتعبير الدستور الإلهي الخالد لعله له ( سلطان مبين). بهذا التعبير القرآني البديع الذي يشعر السامع, والقارئ بأن الدليل والبرهان: (سلطان), بل سلطان (مبين), يخضع له الكبير والصغير, والراعي والرعية, والحاكم والمحكوم, على حد سواء, خضوعهم( للسلطان), بما تحمله هذه الكلمة: (السلطان) من دلالة وتعبير. ( إن الهدهد لما قدم قالت له الطير: ما خلّفك ؟ لقد نذر سليمان دمك. فقال هل استثنى؟ قالوا : نعم. قال :"لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين" قال : نجوت إذًا )() ولاحظ –إن شئت – هذا الفهم البديع من هذا الجندي البسيط (الهدهد), الذي يعرف أن سليمان لابد أنه استثنى, وعلق عقوبته على اتضاح الأمر, وبيان المتهم عن نفسه, ثم تقام عليه الحجة بعد, ولعل هذا يشعر بهذه الروح التي كانت منتشرة في تلك الدولة الفتية الرائدة, وهي أن أحدا لا يؤخذ بغير جريرة, أو بجريرة غيره, أو بغير بينة أو سؤال, وهذه سمة الدول الناهضة التي يأمن فيها الفرد على نفسه, وماله, وأهله, وولده, حتى إن كانت القضية بينه وبين رأس الحكم, ورئيس الدولة .فسليمان هو من هو قيمة وإكباراً, والهدهد هو هو,ضآلة وصغارا, لكن الحق هو الحق, الذي يخضع له الكبير والصغير؛لأنه (سلطان) العدالة المطلقة, وقد قيل: إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة, ويهزم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة. وقد كان ذلك من سليمان ؛ فإنه يسمع ويرى مقالة الهدهد, حتى يكون على بصيرة من الأمر وعلم؛ (إنه ليس ملكا جبارا في الأرض, إنما هو نبي, وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب, فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه , ويتبين عذره, ومن ثم تبرز سمة النبي العادل)(), وتبرز سمة الحاكم الصالح المصلح الذي لا يأخذ بغير جريرة ولا يعاجل بالعقوبة, بل يتأنى ويتريث حتى يستبين الأمر, وتنكشف الملابسات. وقد بدا ذلك واضحا في تعليم الله نبيه داود في نبأ الخصم الذين تسوروا المحراب: (إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)(), فقد عاتب الله نبيه داود ؛ لأنه قضى في المسألة دون أن يتريث ويسمع وجهة نظر الخصم, وسليمان في موقفه مع الهدهد نموذج من نماذج القائد الممكن, والحاكم الصالح؛ فقد قبل عذره بعد أن تبين صدقه – وقد يظن بعض الناس- من أثر ضغط الواقع الذي يعيشونه أن تلك سمة فخرية من سمات القائد والحاكم, والأصل أن هذه صفة أساسية في الدولة التي يمكن لها أو تسعى إلى التمكين, فليست هبة من الحاكم يعطيها عندما تجود بها نفسه, ويحجبها إذا أراد ففي قوله تعالى: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) (دليل على أن الحاكم يجب عليه أن يقبل عذر رعيته, ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه, وإنما صار صدق الهدهد عذرا؛ لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد, وفي الصحيح ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل)().
إن الدولة الممكنة تصحح المفاهيم المغلوطة في أذهان الناس تلك التي درجوا عليها ؛ لأنهم ولدوا ونشأ وا وَرُبوا في ظلال كثير من المفاهيم المغلوطة, وهذه إحدى سمات الدولة الممكنة أن تصحح الفكر, وتضع الأمور في نصابها.
ومن القيم التي يرسيها سليمان(): إعلاء جانب الدين والإسلام على زخرف الدنيا وزينات الحياة, فالمسلم الحق يعتز بالإسلام,ويعلم أنه صاحب رسالة, ولديه دعوة, وعقيدة, يغالي بها, ولا يبيعها مهما كانت الأثمان, وعندما يشعر صاحب العقيدة بأن عقيدته شيء ثمين لا يراهن عليه, ولا يتنازل عنه, ولا يساوم فيه؛ولا ينخدع بغيره, يعطي لعقيدته صورة تليق بها, وتسمو بشأنها وتجعلها – بحق – عقيدة أهل التمكين. وقد رأينا موقف سليمان من بلقيس, تلك التي ورثت الملك كابرا عن كابر, ومنحت العقل والذكاء الذي تفيض الآيات بالحديث عنه, وعبر جندي من جنود سليمان عن مظاهر عزها بقوله – فيما صوره القرآن: (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم )() وصورت الآيات ذكاءها السياسي بقولها: ( أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون )(), وعندما ألقى ملؤها إليها الأمر قائلين: (نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين )(), ما زادت على أن قالت: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون)(), مع هذه المرأة, صاحبة تلك الصفات من الملك, والعز, والعقل, والدهاء, يتعامل سليمان , فلا يخضع لهذا الذي أوتيت فيه" من كل شيء, " وإنما يتعالى بإسلامه وعقيدته فيقول لها أولا وهو يرسل كتابه إليها: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين )(), ويقول لها ومن معها ثانيا وهي ترسل إليه الهدية لتختبره: ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلتأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )(), ويقول لنفسه ومن معه من جنده ثالثا وقد رأى عرشها مستقرا عنده: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين )().
إن سليمان لم يخطف بصره بريق المال, ولم يلفت نظره وهج الجمال, بل كان بصره هناك عند عقيدته ودعوته, ودونها كل الدعوات والعقائد؛ لذلك عظم القائد الممكن في نفوس هؤلاء؛ لأنهم عرفوا أنه ليس ملكا من ملوك الدنيا, ولا قائدا يسعى إلى توسيع مملكته, وفتح ما يجاورها من بلاد؛ إنما هو قائد رباني ممكَّن, يدعو إلى فتح قلوب الناس باسم الله, وتوسيع عقولهم وإدراكهم, على ضوء منهاج الله؛ لذلك كان ختام الحوار المرتقب والحديث الحذِر في غاية المهابة والجلال, فدون عقيدة الإسلام مال الدنيا وعطاء العالمين, فكانت كلمة بلقيس عندما رأت ما رأت غاية في تصوير النتيجة الحاسمة, والنهاية الفاصلة: ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)() ولاحظ لفظ (مع سليمان) وليس( لسليمان) أو نحو ذلك, وكأنها اكتسبت هذه العزة العقدية, وفهمتها من هذا الدين لأول وهلة هي الأخرى, وسليمان هو هو.. الذي يؤكد هذا المعنى نفسَه عندما ُعُرضت عليه بالعشي (الصافنات الجياد ), فشغل عن الصلاة وبتعبير القرآن: (عن ذكر ربه), فلم يركن إلى هذا الحال الذي لا تدوم معه النعم, ولا يستقر معه التمكين , فقال متعجبا من أمر نفسه: (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحا بالسوق والأعناق )().
إن صاحب العقيدة لا يلهيه عنها مال ولا نعم ولا متاع, ولا منصب ولا مغنم؛ فغايته واضحة,وهدفه بيِّنٌ,وطريقه مستقيم, ووسيلته ماضية ؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وهذه القيم التي أرساها سليمان من: سماع الآخر والحرية والعدالة والصب والتأني والثقة المتبادلة بينه وبين جنوده, وغيرها من القيم التي على رواد التمكين قادة وجنودا أن يسعوا لها ويحافظوا عليها, حتى يدوم تمكينهم ويستمر قرارهم.
يوسف وإقامة العدالة ونشر القيم
والناظر في حياة يوسف الصديق () يجد أنها مجموعة متوالية من القيم الإنسانية الراقية, والخلال الحميدة العالية, ويبدو ذلك في مواقف متعددة, تحتاج إلى دراسة مفردة, من ذلك موقفه مع امرأة العزيز في بيتها وسلطانها, في هذا الجو الذي صوره القرآن أبرع تصوير وأدقه وأرقاه, ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك)(), هنا صاح يوسف (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)(),بهذه الصورة المستجيرة التي ترسخ في النفس جرم الحرام وبشاعته, وشؤم الخيانة وأوزارها.
وفي موقفه عندما أتاه رسول الملك, فإنه لم يبادر إلى تبرئة جسمه قبل تبرئة سمعته, فقال للرسول: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)(),في هذا الموقف الذي تتبارى فيه الوساطات لإخراج العبد نفسه من هذه المحنة وأي محنة أشد من محنة الحبس والسجن وأي مضاضة أشد من أن يكون الحبس ظلما بغير جريرة, ومع هذا كله (لا يتهافت على الخروج من السجن, ولا يتهافت على لقاء الملك, وأي ملك؟ ملك مصر, ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته, المسجون ظلما, يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه, ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك.. كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه, فقال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي)(), فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه, ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى, ولا ليسمعه كلمة (الرضاء الملكي السامي), فيطير بها فرحا... كلا, إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه,ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق, فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام- وهم أبرياء مطلقو السراح – فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم؛ ويتهافتوا على نظرة رضا وكلمة ثناء, وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء... يا ليت رجالا من هؤلاء يقرؤون هذا القرآن, ويقرؤون قصة يوسف, ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح-حتى المادي- أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء)(),وتتنوع مواقف يوسف في نشر القيم, ومن ذلك أيضا موقفه مع أخوته عندما قالوا له: (إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين)(), إنه هنا يرسي قيمة العدالة المطلقة فهو لا يأخذ غير الجاني ولا يحبس غير صاحب الذنب, بهذه النزاهة في الحكم والعدالة في القضاء, حتى يتعلم منه الناس بل البشرية كلها أن الحكم لا يدوم إلا بالعدالة, وتجد هذه القيم أيضا في موقفه مع إخوته وعفوه عنهم وصور القرآن ذلك بقوله: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)(), (لقد سمح لهم سماحا تاما من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق, ودعا لهم بالمغفرة والرحمة, وهذا نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق, وخيار المصطفين)(), إن يوسف يرسي هنا قيمة العفو والصفح بهذه الصورة المتفردة التي تدعو الناس للتأسي بها ويسيروا على دربها.
ذو القرنين وإقامة العدالة ونشر القيم
وأول ما تلمح هذا المتطلب لدى ذي القرنين تلمحه في جوابه على هذا العرض: (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)(), وفي هذا الجواب تلمح وضوح المنهاج الذي تقام به العدالة, وتنشر على أساسه الفضائل, في ذهن الحاكم الصالح(ذي القرنين), فإنه أخبر(أن من ظلم, أي: استمر على كفره وشركه بربه { فسوف نعذبه }, قال قتادة: بالقتل وقال السدي: كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا, وقال وهب بن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل أجوافهم وبيوتهم, وتغشاهم من جميع جهاتهم, والله أعلم وقوله: { ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } أي: شديدا بليغا وجيعا أليما, وفي هذا إثبات المعاد والجزاء, وقوله: { وأما من آمن } أي: اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فله جزاء الحسنى }, أي: في الدار الآخرة عند الله -عز وجل- { وسنقول له من أمرنا يسرا } قال مجاهد معروفا)(),(قوله تعالى: فله جزاء الحسنى, قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم جزاءُ الحسنى, برفع مضاف قال الفراء: الحسنى: الجنة, وأضيف الجزاء إليها, وهي الجزاء, كقوله (إنه لحق اليقين) الحاقة: 51 (ودين القيمة) البينة: 5( ولدار الآخرة) النحل: 30, قال أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى لأن الإيمان والعمل الصالح خلال وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب جزاءً)(), وتلمح من هذا النص الذي ساقه ابن القيم حرص ذي القرنين على نشر هذه الخلال الحسنى التي دفعهم دفعا إلى تعلمها واكتسابها,إن هذا الإعلان الذي أعلنه ذو القرنين يمثل نشر العدالة في أسمى صورها, وإعلان القيم في أبهى مظاهرها, (إن المؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء ... وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه حسنا, ومكانا كريما وعونا وتيسيرا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة... عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج. أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم إلى سوط عذاب, وأداة إفساد,ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد.)()
ولقد ظهر منهج ذي القرنين في إرساء القيم بوضوح عند رفضه( للخرج) الذي عرضوه عليه مقابل أن يجعل لهم سدا بينهم وبين يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض, وعلمهم أن ما عنده من نعم الله خير وأبقى, وذلك ما صوره القرآن بقوله:( ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما)(), أي: (ما بسطه الله تعالى من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم, ولكن أعينوني بقوة الأبدان, أي: برجال وعمل منكم بالأبدان والآلة التي أبني بها الردم, وهو السد, وهذا تأييد من الله –تعالى- لذي القرنين في هذه المحاورة؛ فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد, ولوكلوه إلى البنيان, ومعونته بأنفسهم أجمل به, وأسرع في انقضاء هذا العمل, وربما أربى ما ذكروه له على الخرج)(), (إني لا أريد المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم { أجعل بينكم وبينهم ردما } أي : سدا قالوا وما تلك القوة ؟ قال : فعلة وصناع يحسنون البناء والعمل والآلة)(), وهنا يرسخ ذو القرنين في ذهن هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولا قيمة من القيم العليا, هي أن قدر الإنسان ليس بما يملك بل بما يحسن مما يفيد منه ويفيد غيره, فهو لا يرضى منهم أن يدفعوا إليه بهذا الخرج ثم يكونوا هم عاطلين باطلين لا عمل لهم ولا مشغلة إنه يريد أن يعلمهم أن واجب الفرد في الحياة ليس أن يملك ليستأجر بل يملك ليدير بماله حركة الحياة.
الخاتمة أسأل الله حسنها
وبعد هذه التطوافة مع سنة الله في التمكين بان منها ما يلي:
توصيات البحث:
ويوصي الباحث بعد هذه التطوافة بالآتي:
2- التأكيد أن التمكين يخضع لفكرة(السننية), وأنه لا يتم إلا إذا تمت أسبابه وشروطه.
3- التأكيد أن التمكين قابل للتحقيق, وممكن الحدوث, ونشر هذه الفكرة بين المسلمين عامة ومن تسيطر عليهم فكرة الانهزام خاصة.
4- توصية المؤسسات الرسمية بوضع خططها التربوية والتعليمية على ضوء من فكرة التمكين, واستهداف هذه القضية حتى تصل المجتمعات الإسلامية إلى التمكين الحضاري, الذي يعيد للأمة قوتها وريادتها من جديد.
5- أن تتعاون أجهزة الدول الإسلامية على بناء هذا الجيل من خلال وضع إمكانات الدول تربوية وعلمية من أجل الوصول إلى هذا الهدف الجليل.
6- توصية الدعاة والمهتمين بأمر الإسلام بإحسان التصور والتصوير لهذه الفكرة, والتركيز عليها, في حديثهم وخطبهم ومحاوراتهم, ونشرها في المجتمعات.
والله وحده خير مسئول ومأمول, منه الحول والقوة, وعليه المعتمد والتكلان.
المصدر:موقع الاسلام اليوم
ابحث
أضف تعليقاً