شيء من فقه الدعاء:
2- الله جل جلاله ليس في المساجد فقط.
وردت صيغة "يسألونك" في القرآن الكريم خمس عشرة مرة. وفي كل مرة ينزل الجواب من رب العالمين على مصطفاه صلى الله عليه وسلم بصيغة" قل" لهم كذا وكذا.. فلما سألوه عن الله كان الجواب: إني قريب.. بلا وسيط بين العبد وربه.
إني قريب: ليشطب الله جل جلاله جميع الوسائط بينه وبين عباده. حتى لو كان الوسيط رسوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" البقرة: 186.
- لا واسطة بين العبد وربه.
- ولا بواب على بابه ولا حاجب على رحمته. ولا متحدث باسمه. ولا "غرف اعتراف" ولا حامل بريد له ولا موقع نيابة عنه.. ففي العبادة ( والدعاء مخ العبادة) يتوجه العابد والداعي إلى المعبود الواحد بإياك نعبد بلا شريك ولا وسيط. وبإياك نستعين من غير شافع ولا معين.
أما في شؤون الدنيا فبين الناس تعارف وتآلف وتعاون وعلم وتعلم (وعالم ومتعلم..). فإذا توجه من لا يعلم بسؤال إلى من يعلم جاءه الجواب منه - أو ممن هو أعلم منه - بصيغة الإحالة والترحيل. ومثال ذلك في كتاب منه:
- يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: العفو.
- يسألونك عن اليتامى؟ قل إصلاح لهم خير.
- يسألونك عن المحيض؟ قل هو أذى..
- يسألونك عن الروح؟ قل الروح من أمر ربي..
- يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل علمها عند ربي..
- يسألونك عن الخمر والميسر؟ قل فيهما إثم كبير..
- يسألونك عن الأهلة؟ قل هي موايت للناس والحج.
- يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير..
- يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات..
- يسألونك عن الأنفال؟ قل الأنفال لله والرسول..
- يسألونك عن ذي القرنين؟ قل سأتلوا عليكم منه ذكرا..
- يسألونك عن الجبال؟ فقل ينسفها ربي نسفا..
أما لما سألوا عن رب العباد جل جلاله من هو؟ فتولى الله الإجابة بذاته ولم يأمر رسوله بأن يقول لهم إنه قريب. فالله متكلم بكلامه. وكلامه ناطق بالحق المبين يخاطب الإنسان فردا والناس جنسا وصفة بأنه هو الله لا إله إلا هو. فليس في الإسلام ناسوت ولاهوت ولا كهنوت. وليس في عقيدة أهل التوحيد "إكليروس". ولا اعتقاد فداء بمعناه الكنسي الذي يحمّل عيسى عليه السلام أخطاء البشرية نيابة عنهم..!! في عقيدة الفداء والخلاص والمعمودية والطاعة..
فالسؤال عن الدين عموما دليل على أن المجتمع الإسلامي حي متحرك متفتح على معرفة أخبار الغيب من مصدرها العلوي. ودليل أيضا على أن الإسلام دين متحرك مرن يتجدد بالسؤال وينشئ في النفس تصورا جديدا للحياة وللكون من حولنا. وأهم ما ينشئه هذا التصور أن لهذا الكون ربا قيوما سميعا بصيرا.. يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويكشف السوء.
فمن دعاه بنداء سمع صوته. ومن ناجاه بخفوت ولطف أجاز فوته. ومن تحركت شكواه في صدره ولم يبدها علم صمته . ومن نوى ولم يقل شيئا أغناه علمه بحاله عن تحريك لسانه بسؤاله إذا كان موقنا أن أعظم عبادة - بعد التوحيد - هي الدعاء والحمد والشكر في الرخاء والشدة.
فاللجوء إلى الله في الشدة يرخيها. والركون إليه في الرخاء يديمه ويبارك فيه:"وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" الأحقاف: 15. فمن استطاع أن تكون له عند الله خبيئة في يسره فليفعل . فإنها ستكون له يوم عسره مفتاح دعاء وسر إجابة إذا غلقت في وجهه الأبواب وتقطعت به الأسباب. وما حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار فسُد عليهم إلا دليلا على أن صنائع الخلوات تقي مهالك الجلوات. ومن وضع - في أيام السراء - رصيدا من الخير عند الله. وهو في يومه الأبيض وجده مددا عنده في يومه الأسود.
والدعاء ليس في المساجد فحسب لأن الله لا يحويه مكان. وليس في شهر الصيام فقط لأنه لا يجري عليه زمان. ولكن لبعض الأمكنة قداسة (كالحرمين الشريفين والأقصى وصعيد عرفة والمشعر الحرام..). ولبعض الأزمنة بركة (كيوم الجمعة والعيدين وشهر الصوم..). فأكثروا من الدعاء في كل حين وآن واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون..
وكثرة الذكر والاستغفار والدعاء.. ليست مشروطة بالوقوع في المعاصي كما تظنه الغوغاء أن من عصا الله كثيرا وأذنب في حق نفسه كثيرا عليه أن يستغفر كثيرا..!! فهذا مخالف لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة. ولما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر زاد نشاطه في الذكر والدعاء وفي قيام الليل حتى تفطرت قدماه. ولما أشفقت عليه أمنا عائشة رضي الله عنها وسألته التهوين على نفسه قال:" أفلا أكون عبدا شكورا". لأنه كان مع الله ولم يقطع عن نفسه أسباب السماء لحظة واحدة حتى اختار الرفيق الأعلى.
وأن تكون مع الله يعني أن يكون قلبك ذاكرا ولسانك شاكرا وجسدك على ما قضى الله لك أو عليك - من يسر وعسر - صابرا.. وأن تدعوه وتحمده وتشكره حتى لو لم تكن تملك من متاع الدنيا شيئا شيئا..فيكفي أنك موجود. وتلك عبادة الافتقار التي وردت على لسان نبي الله موسى عليه السلام. وقد كان هاربا من فرعون وليس له وظيفة ولا بيت ولا زوجة ولا دابة.. إلا صحته وعصاه. فلما وفقه الله إلى فعل خير في ابنتي الشيخ الصالح آوى إلى ظل شجرة وقال:".فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" القصص: 24. ففتح الله عليه أبواب الخير كلها: أمنا. ووظيفة. وسكنا. وزوجة. وقطيع غنم.. ورسالة تنزلت عليه من السماء.
ابحث
أضف تعليقاً