عصر الأنوار في اليابان
الجزء الثاني
أميمة بونخلة
تعتبر اليابان أن نجاحها مستقبلا رهين بنجاح تعليمها،وتضع صوب أعينها هدفين أساسيين هو تخريج جيل مسؤول عن أمته ووطنه،و العمل على ضمان العيش الكريم و الحياة السعيدة لكل الأطفال.
وتعتبر كذلك أن اهتمامها بهذا القطاع يزكي روح التنافسية مع باقي بلدان العالم،معبرة بذلك عن وعيها الكبير بأنه وسيلتها لتشكيل شعب ياباني قوي مساهم في تطوير الدولة الديمقراطية والثقافية ، آمل في المساهمة في السلام العالمي.
ولتحقيق هذه الأهداف ، تسعى اليابان لإعداد التعليم الذي يقدّر كرامة الفرد ، ويسعى إلى غرس القيم في شعب يتوق إلى العدالة ، ويحترم تقاليده و ثقافته.
تتمثل أهداف سياسة التعليم اليابانية في ما يلي:
1 ـ امتلاك الطلاب لمعارف وثقافة واسعة ، وتعزيز قيمة البحث عن الحقيقة ، والاهتمام بالتربية الأخلاقية؛ بالإضافة إلى بناء صحة الجسم .
2 ـ تنمية قدرات الأفراد ، وتنمية الإبداع ، وتعزيز روح الاستقلالية من خلال احترام قيمة الفرد ، بالإضافة إلى التأكيد على العلاقة بين الحياة المهنية والحياة اليومية للشخص وتعزيز قيمة احترام العمل .
3 ـتعزيز قيم احترام العدالة والمسؤولية والمساواة بين الرجل والمرأة والاحترام المتبادل والتعاون ، وكذلك قيمة المشاركة الفعالة في بناء المجتمع والمساهمة في تنميته .
4 ـ تعزيز قيم احترام الحياة ، والاهتمام بالطبيعة .
5 ـ تعزيز قيمة احترام التقاليد والثقافة وحب الوطن، وكذلك قيمة احترام الدول الأخرى والرغبة في المساهمة في السلام العالمي وتنمية المجتمع الدولي.
التعليم بالنسبة لليابانيين هو سلاحهم للدفاع عن حضارتهم و تاريخهم،مقدرين فضله في أنه ما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم لو لم يلتفت القادة ويعملوا على تطويره و توظيفه لتخريج أجيال قوية،مثقفة ومبدعة، ومقدسة لروح الجماعة.
يتميز المجتمع الياباني بتركيزه على وحدة الجماعة فكرا وسلوكا،فكرا من خلال إيمان اليابانيين بأهمية الحرص على تزكية وتوطيد ثقافة الجماعة للحفاظ على تماسك المجتمع الياباني،وسلوكا من خلال انعكاس هذا الفكر على سلوكاتهم وافعالهم ،وذلك ما يتضح جليا داخل وحدات مجتمعية مختلفة،كالأسر والمدارس ومقرات العمل..،فاليابانيون يشعرون بالرضا وهم متماثلون في ملبسهم وسلوكهم وأسلوب حياتهم،حتى في تفكيرهم بمعايير الجماعة.1
يحرص اليابانيون على زرع فكر الجماعة في نفس الطفل منذ نشأته،فالطفل منذ صغره يستشعر دفء الجماعة ،يتربى داخل أسرة متماسكة ،ثم يلج المؤسسات التعليمية ليجد نفسه أمام منظومة تعليمية غايتها الكبرى ان ترسخ في ذهنه انه جزء من جماعة ،واجبه اتجاهها ان يجتهد ويعمل للحفاظ على وحدتها وتماسكها،وذلك من خلال اعتماد بيداغوجيا المجموعات 2،في مختلف المراحل التعليمية.
وحين يلج عالم الوظيفة ،يصادف مجتمع عمل يركز على أهمية العمل الجماعي ،من المزارع الى مكاتب العمل داخل الشركات والمؤسسات الكبرى،والوظيفة في اليابان لا تعتبر مجرد نظام تعاقدي من اجل الحصول على أجر ثابت،لكنها بالنسبة للمواطن الياباني تعني بالفعل تحديد هويته،داخل كيان اجتماعي أكبر.3
الجماعة هي إحدى السمات المميزة لبنية المجتمع الياباني،وهذه السمة ليست وليدة اللحظة،إنما تمتد
جذورها التاريخية مع امتداد تاريخ امبراطورية الجزر،مما جعل المجتمع الياباني قويا ومتماسكا ،يصعب
اختراقه،وتشويه تمثلاته الداخلية وتدمير نسيجه الجماعي،ولم تكن الفردية فيه الا جزء ا مكملا لدور الجماعة،بل ان الفرد الواحد لا يمكن فهم دوره التنموي خارج إطار الجماعة.4
وعي الشعب الياباني بمدى أهمية انسجامه ووحدته،وقناعته التامة بأن مصير دولة اليابان رهين بتكاثف افراد شعبها ،جعله يراهن على قطاع التعليم ،ويعمل على تطويره جهدا واستثمارا،ليكون هو وسيلتهم للنهوض واللحوق بركب الحضارة التي تخلفوا عنها بسبب عزلة اليابان التاريخية،حتى غذت الغاية الكبرى لمنظومة التعليم اليابانية ،هي تخريج مواطنين يقدرون ويقدسون وحدة الجماعة.
استطاع اليابانيون أن يوضفوا التعليم ويستثمروا ما يعود عليهم منه من نفع في عملية النهضة،موقنين انه سلاحهم لتحقيق غاياتهم الكبرى وهي الحفاظ على تماسك مجتمعهم وتقدم اليابان،من خلال تحويل عملية التعليم من كونها وسيلة لسبر غور الإمكانيات الفردية إلى عملية تساهم في الوصول للهدف القومي.5
بمجرد أن فتحت اليابان أبوابها،حتى قبيل عصر الميجي ،تفطن قادتها لضرورة الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة،فقاموا باختيار نخبة طلابهم لإرسالهم إلى دول اوروبا وامريكا في اطار بعثات تعليمية ،حيث قام الشوجن 1 عام 1860 بإرسال بعثة مكونة من 80 ساموراي الى الولايات المتحدة،وأرسلوا بعثة ثانية الى كل من انجلترا وهولندا وفرنسا ،عامي 1862 و 1863. 6
عملت اليابان على تطوير نظمها التعليمية وتعديل مناهجها حتى تخدم غاياتها وأهدافها ،وحاولت أن تستفيد قدر المستطاع مما وصلت إليه دول أوروبا وأمريكا ،مستفيدة من كل ما هو مفيد عندهم طارحة لغيره ،مع الحفاظ في نفس الوقت على هويتها والحرص على عدم الذوبان في تلك النماذج.
وبالموازاة مع نهج سياسة البعثات التعليمية ،قامت اليابان بجلب خبراء دوليين والاستعانة بهم،حيث آستخدمت اليابان الخبراء الألمان لتنظيم الجامعات الجديدة والمدارس..اما المستشارون الامريكيون ،فساعدوا في اقامة المحطات الزراعية والخدمات البريدية..اما البريطانيون فقد أوكلت الثورة اليابانية إليهم أمر تطوير السكك الحديدية..7
حرص اليابان على احضار الخبراء الاجانب لم يكن بعين الانبهار التام او التقليد الأعمى،إنما كانت سياسة تنم عن ذكاء كبير وحكمة بالغة،احضروهم ليستفيدوا من خلاصة ما وصلوا اليه ،ثم يصيغون نموذجهم المتفرد،حتى أن كل هؤلاء الخبراء والمستشارين الأجانب تم وضعهم تحت اشراف اليابانيين،وعملت الحكومة على انهاء خدماتهم بلطف بمجرد ان شعر اليابانيون ان باستطاعتهم الاحلال محلهم.8
سياسة ارسال البعثات التعليمية ،كانت سياسة مدروسة ودقيقة جدا من أولها الى آخرها،بدء ا باختيار النخبة وإعطاء الاولوية للكفاءة ،انتهاء ا بالعمل على تنزيل توصيات ومخرجات البعثات على أرض الواقع،من خلال منح افرادها مباشرة بعد عودتهم مناصب عليا،باستطاعتهم من خلالها ان يطبقوا ما توصلوا اليه من نتائج،فنجحوا بذلك في خدمة مشروع النهضة الياباني.
موري ارينوري،أحد افراد البعثة التعليمية الى دولة انجلترا في ستينيات القرن التاسع عشر،بعد عودته تقلد منصب وزير التعليم،فكان بذلك اول وزير للتعليم في امبراطورية اليابان،وكان الى جانب تشبعه بالمناهج التربوية الحديثة شغوفا بالنظام الجامعي الالماني،وأسس المدرسة اليابانية الحديثة ،وتحققت في عهده مكاسب مهمة ،منها تزايد نسبة المتعلمين واضفاء الطابع القومي على مبادئ التعليم الياباني.9
ألمانيا،امريكا،بريطانيا ،فرنسا..كلها دول شكلت بالنسبة لليابانيين وجهة علمية ،للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم التي قضوا سنوات طوال في العمل عليها،واضعا اليابانيون نصب اعينهم هدفا واضحا وهو البدء مما وصل اليه الآخر والانتهاء بما سنصل اليه نحن.
وبريطانيين وغيرهم في مجالات مختلفة،من طب وتكنولوجيا..
خلاصة :
اعتمدت النهضة التعليمية باليابان خلال هذه المرحلة على 3 أسس رئيسية:
1ـ الاستعانة بالعلماء والمعلمين الاوروبيين.
2 ـ ترجمة الكتب الاجنبية الى اللغة اليابانية ،وانشاء المدارس الحديثة.
3 ـ ارسال البعثات اليابانية الى الدول الاوروبية الحديثة لينهل افرادها من العلوم الحديثة.10
1 ـ سلمان بونعمان ،التجربةاليابانية دراسة في اسس النموذج النهضوي،مركز نماء للبحوث والدراسات الطبعة الاولى 2012،ص
2ـ أدوين رايشاور،اليابانيون،عالم المعرفة 1989،ص184
3ـ بيداغوجيا المجموعات:تقنية تعليمية،تقوم على تشكيل مجموعات صغيرة من التلاميذ، التي تكون بدورها جماعة القسم،وتقتضي وضع التلاميذ في وضعيات بناء ذاتي للمعرفة؛أي جعل التلميذ نشيطا وفاعلا خلال عملية التعلم،وتنطلق من واقعه،وتجعله في وضعية تعلم جماعي.
بيداغوجيا المجموعات، منتديات دفاتر التربوية بالمغرب ،2012
4 ـ رايشاور،اليابانيون،ص 189
5 ـ الشوجن: باليابانية shōgun 将軍
هو اللقب الذي كان يطلق على الحاكم العسكري لليابان منذ 1192 م وحتى نهاية فترة إيدو (1868 م).
6 ـ فوزي درويش، اليابان الدولة الحديثة والدور الأمريكي ،الطبعة الثالثة 1994،ص 81
7 ـ فوزي درويش، اليابان الدولة الحديثة والدور الأمريكي ،الطبعة الثالثة 1994،ص 83
8 _ whitney,j-ibid,p287
9 ـ يحيى بولحية،البعثات التعليمية في اليابان والمغرب،ص 720
بالاضافة لارسال أفضل طلابها الى الخارج،والاستعانة بخبراء دوليين للاستفادة منهم ،عملت الحكومة اليابانية كذلك على ترجمة الانتاجات الغربية الى اللغة اليابانية،فترجمت كتبا لمؤلمفين امريكيين
ابحث
أضف تعليقاً