عندما يترجل الفارس
الدكتور عبد الحليم عويس
العالم الذي فقدناه....... 15-12- 2011
القدر المقدور لا يفرق بين شيخ وشاب ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين مطلوب أو مزهود فيه، إنه تجلِّى لقانون القهر الإلهي، ومظهر من مظاهر مساواة البشر كل البشر أمام هذا القانون.
جبار هو ومقتدر ذلك الموت، يقتحم البروج المشيدة بجدارة، ويختطف بجسارة من كان في قائمته وقد جاء دوره ولو كان قامة ومقاما.
ومع كل يوم هو يمعن في فضح الحياة وكشف مستورها، يسطو عليها في جنح الليل وفى وضح النهار ولا مجير لها منه.
يسقط غرورها وفتنتها لدى العقلاء ومن ينظرون إلى مآلات الأمور ويتأملون حظوظ الناس في دنياهم.
مع كل لحظة يسقط ضحاياه بأسباب وبغير أسباب فهو ليس بحاجة إلى مرض فيمن يريده وإن كان المرض من أسبابه أيضا.
الضحايا من أبناء البشر بالآلاف في كل يوم، ولكن الذاكرة الإنسانية تتوقف فقط عند بعضهم. وقليلون هم أولئك الذين يرحلون عنا ويودعون دنيانا وقد تركوا بصمات غائرة في عمق النفس وفي ميادين الحياة، ممن كانوا للدنيا منارات وللخير والبر علامات.
أولئك الرجال يحزن الكون عليهم حين تخلوا فيه أماكنهم وتتوقف عن الشهيق والزفير صدورهم، وتفقد الإنسانية بفقدهم عناصر جمالها وبريقها وروعتها. قليلون هم أولئك الذين ارتفعت هممهم لمعالي الخلود بمواقفهم، فطرقوا أبوابه حتى دخلوا، وبقيت كلماتهم بعد رحيلهم حية نابضة تحدد موقفا, وتشكل ضغطا,وتوضح فكرة ,وتهدى حائرا, وتسوق دليلا , وتؤرق مضاجع الظالمين.
ولقد كان فارسنا المفكر والعالم الدكتور عبد الحليم عويس واحدا من هؤلاء.
ولئن فاتته في وطنه جوائز التقدير ـ برغم عطائه العلمي الذي تجاوز عشرات المراجع ـ لتذهب في شكل فضائحي لمن يلوثون شرف ثقافة الأمة، فإن جهده في موازين الله لن يكون هباء، وعدالة الله تحسب في موازينه أثار الكلمة الطيبة وتداعياتها في الزمان والمكان حين تٌحَمَّل بالأنفاس الطاهرة وتفيض حبا لله وذودا عن كتابه وحمية لمنهجه.
ولئن كان عطاء العلماء لا يتحدد بسنوات حياتهم فقد كان فقيدنا رمزا ونموذجا لأولئك الذين يوزن مداد أقلامهم بدماء الشهداء يوم القيامة.
في أحد المؤتمرات بقاهرة المعز التقيت الرجل وكنت قد سمعت عنه وسبقه إليَّ حديث موثق عن مروءته وشرفه ولم أكن قد رأيته من قبل.
اسمه عالم المعرفة الانسانية قمر يضيء وشمس لا يخبو لها شعاع، تسبقه إليك كتاباته وكتبه ومواقفه الجليلة، ويشدك إليه إحساسك بأنك انتقلت حضاريا وإنسانيا الى الزمن الجميل، رغبتك في التعرف على كثير من جوانب العظمة في الشخصيات العظيمة تشبع بمجرد التعرف عليه والجلوس اليه والتحدث معه.
في لأول مرة تراه تستشعر أنك كنت تعيش معه في عالم السر المكنون، وأنه فقط قد جاء الى الوجود قبلك، ومن ثم فهو يسبقك في كل شيء حتى في الزمن.
يمتع بروح تألف من يقبل عليه فتحبه ويحبك، والإحساس بالزمن يتلاشى حين تستمع إليه فتستمتع روحك ويطير عقلك فرحا بالإضافات الجديدة الى تحصل عليها في تلك الجلسة.
الرجل ثري في ثقافته وثري في عقله وثري أيضاً في عطائه الحضاري المتميز.
على ملامحه تبدو أصالة ابن القرية، فتواضعه ممزوج بالعزة، وقوة تماسكه ممزوجة بالحنان، وقدرته فائقة على تجاوز الصعاب وتحدى المتاعب مهما كانت ثقيلة.
قلبه كبير مثل السماء في اتساعها، وعقله يزن الوجود بميزان العالِم، فلا يحتبس في عصبية للجنس أو اللون.
يحفظ للثقافات عطائها وللحضارات خصائصها فلا يجور مع الهوى ولا يحيف مع الشنآن.
التقيته وقدمت له نفسي ولم أكن قد شرفت بلقائه من قبل، وبمجرد ذكر أسمي شد علي يدي بقوة قائلا لي:
منذ عامين قرأت لك كتابا بعنوان من قضايا التحدي في القرن الواحد والعشرين، قلت له معذرة سيدي هو بحث كتبته عن العلامة بديع الزمان سعيد النورسي وليس كتابا، فقال بلغة الجزم والعزم: قرأته كتابا وليس بحثا فتعجبت؟ وأنهيت الحديث حتى لا يدور جدل بيننا وقلت في نفسي ما هذا...؟ هل الرجل أدرى بنفسي منى؟
وكأن الرجل استشعر ما يدور في ذهني فسألني ماذا عندك اليوم من ارتباطات؟ فقلت: لاشى، فقط سأترك الفندق سأعود إلى بيتي واستعد للسفر، فاستأذن في زيارتي وحددنا الوقت وكنا في نهاية المؤتمر.
وفي الموعد المحدد طرق الباب وكان بصحبته صديق من تلامذته، استقبلته مرحباً، وإذا به يخرج مجموعة من نسخ ذلك الكتاب الذي تحاورنا حوله صباح ذلك اليوم وكانت المفاجأة، أن أحد المطابع المهتمة بتراث ذلك العالم التركي العظيم سعيد النورسي قد حصلت على البحث وطبعته كتابا.
منذ ذلك الوقت توطدت علاقتنا وشعرت أنني قد حصلت على كنز ثقافي ومعرفي من طراز فريد وعجيب في قاهرة المعز التي يدوم ويتجدد مع الزمان عطاؤها العلمي.
منذ عام تقريبا وقبل أن يخط الموت خطوط النهاية في حياته ، التقيته في قاهرة المعز فقبيل الثورة بأيام ذهبت بصحبة بعض الزملاء والأصدقاء لزيارته ، فأقبل علينا الاق الجبين مشرق الوجه بسام المحيا ، في عينيه المحدودتين تشعر بسعة الكون، ومن مفردات حديثه تشعر أنه صديق الوجود كله بأرضه وسمائه ، كان شامخا ومعطاء كشجر النخيل ، وكان مهموما بهموم وطنه وأمته ،يحمل على عاتقه هموم فقرائه والكادحين فيه، رعايته بطلاب العلم والباحثين تفوق الحد والوصف ، وكان يُسَخِّرُ كل إمكانياته المالية لطلاب العلم، يوفر لهم المسكن والمعيشة، ويدفع لهم تكاليف الحياة .
تذهب إلى بيته فتراهم هناك من كل الأجناس، أفارقة وأسيويون وأوربيون وكلهم يعتبرونه مسؤولا عنهم حتى في الشأن المادي.
غريب وعجيب ـ د. عبد الحليم عويس ـ ذلك الفارس الذي فقدناه، هو فرد واحد، ولكنه كان في قوة دولة بكاملها.
عزاؤنا أنه قد شاهد وطنه مصر وقد تخلص من الدكتاتورية والطغاة والاستبداد قبل أن يرحل عن عالمنا.
ولا نملك إلا أن نحمد الله ونسترجع فنقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار.
وهنيئا لك أيها الفارس ذلك الجوار الأعظم، وعظم الله فيك أجر العلماء وطلاب العلم، وخالص العزاء لأسرتك الكريمة.
أ.د. إبراهيم أبو محمد
مفتى عام القارة الأسترالية
Emai dribrahim@muftiofaustralia.com
ابحث
أضف تعليقاً