رمضان عبادة التوازن الروحي والمادي                                                                

الدكتور زيد احمد المحيسن                                                                         

الصيام، في جوهره، ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب فحسب، بل هو حالة من الانقطاع عن الماديات وارتقاء الروح إلى مراتب من الصفاء الداخلي والنقاء النفسي. إنه عبادة تجمع بين الجسد والروح في رحلة من التوازن الروحي والمادي، حيث يجسد الصيام أسمى معاني الطاعة لله تعالى والانضباط النفسي، بل هو تدريب على التهذيب والسمو الأخلاقي، ليصل الإنسان إلى حالة من النقاء والصفاء الذهني.

فلسفة الصيام تتجاوز كونه طقسًا دينيًا محضًا، بل إنه يمثل مدرسة حقيقية للنفس البشرية التي تسعى للتوازن والتقوى. يرمز الصيام إلى التقوى والطاعة، حيث يعتبر من أهم أركان العبادة التي شرعها الله لعباده، ويشكل فعلًا من أفعال العبادة التي تدعو المؤمن إلى تعميق الوعي الديني والتوجه الروحي، ليشعر الصائم في خلوته مع نفسه ومع الله. في هذا السياق، يصبح الصيام تجربة روحية تقوم على إيقاف زخم الحياة اليومية والتوجه بالروح نحو الباطن، للاتصال بالله والتفكر في معاني الوجود. ويعكس الصيام روح الاستجابة لأوامر الله سبحانه وتعالى، ما يعزز الارتباط الدائم به.

من الناحية النفسية، يعد الصيام من أعمق أشكال التهذيب النفسي، حيث يقوم الإنسان بتدريب نفسه على ضبط الشهوات والابتعاد عن الملذات المادية لمدة محددة. إنّ هذه التجربة تعلم الإنسان الصبر، وتمنحه القدرة على التحمل أمام مختلف أنواع المحن. في وقت الامتناع عن الطعام والشراب، يكتشف الفرد جوانب غير ظاهرة في ذاته من قوة الإرادة، كما يعزز من قدرته على مواجهة الرغبات والغرائز التي قد تكون سببًا في تشتت التركيز وتضييع الهدف في الحياة. فالصيام لا يُعتبر فقط طقسًا عباديًا، بل هو أيضًا فرصة لتعزيز الذات وتقويتها داخليًا.

أما على الصعيد الاجتماعي، فإن الصيام يعزز من مشاعر التعاطف مع الفقراء والمحتاجين. فمن خلال تجربة الجوع والعطش، يُقَحِّم المسلم نفسه في معاناة الآخرين، ويتعلم كيف يكون أكثر تسامحًا ورأفة بمن حوله. وهذا يشعره بأهمية الإحساس مع الآخرين، مما يدفعه إلى العمل الخيري والتصدق، فيحصل بذلك على ثواب في الدنيا والآخرة. فالصيام يعيد تشكيل الرؤية للمال والممتلكات، ويجعل الإنسان يراجع أولوياته ويسعى لخلق بيئة مجتمعية من التآزر والتضامن.

الصيام، في فلسفته، يمثل أيضًا تطهيرًا جسديًا وروحيًا. ففي الصيام، يحدث تطهير للجسد من السموم الناتجة عن الطعام والشراب بشكل مفرط. هذا الانقطاع البسيط عن الطعام لا يعيد للجسم فقط صحته، بل يُمنح فرصة لتجديد نشاطه وموازنة وظائفه الحيوية. أما روحيًا، فهو يُعد من أفضل وسائل تطهير النفس من الشوائب والذنوب. في الشهر الفضيل، ينشغل الصائمون بالعبادة والدعاء، مع إيقاف الكثير من العادات اليومية، ما يفتح أبواب التوبة ويزيل آثار الذنوب.

من جانب آخر، يسهم الصيام في تعزيز الوعي الروحي. إذ يمثل فترة من الانقطاع عن الحياة المادية والانغماس في التأمل. ويمثل فرصة للنظر في مسار الحياة ومعنى الوجود، بعيدًا عن ضغوطات الحياة اليومية. الصيام يجعل الإنسان في حالة من الصفاء الذهني، فيمكنه التفكير في مآلات الأمور، وتنقية عقله من الانشغالات الصغيرة التي تشوشه. وهذا يُسهم في نمو شخصيته الروحية ويجعله أكثر قدرة على فهم ذاته والآخرين.

الصيام، إذن، ليس مجرد عبادة بدنية أو تقييد للشهوات، بل هو مدرسة متكاملة لتطوير الإنسان على كافة الأصعدة: الروحية، النفسية، والجسدية. إن فلسفته تتجاوز حدود الطقوس المقررة؛ ليكون مبدأ يعكس التكامل بين الإنسان وكل من حوله: في علاقته مع الله، مع ذاته، ومع مجتمعه. وبذلك يكون الصيام مسارًا نحو تكامل الإنسان داخليًا وخارجيًا، ليعيش حياة أكثر توازنًا وأعمق معنى.