wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
إحياء مفهوم الأمة في الخطاب الديني الحديث

إحياء مفهوم الأمة في الخطاب الديني الحديث

الدكتور زيد احمد المحيسن 

في زمن تتنازع فيه الهويات القُطرية، والتكتلات الاقتصادية، وتغزو فيه العولمة تفاصيل الحياة اليومية، بات مفهوم "الأمة الإسلامية" مهددًا بالتآكل التدريجي في الوعي الجمعي للمسلمين. لم يعد المصطلح حاضرًا في الخطاب الديني كما كان، بل تراجع أمام صعود الخطاب المحلي، وانشغالات الفقه المعاصر بالقضايا الفردية على حساب الرؤية الجماعية. فكيف يمكن أن نُعيد للأمة الإسلامية حضورها في الخطاب الديني الحديث، دون السقوط في فخ الشعارات أو الاصطدام مع واقع الدولة الحديثة؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من تجاوز التصورات التقليدية التي اختزلت "الأمة" في مشروع سياسي أو نظام حكم، نحو فهم أوسع وأكثر عمقًا يرتكز على الأبعاد الحضارية والثقافية والقيمية لهذا المفهوم. فالأمة ليست مجرد إطار سياسي، بل هي حاضنة حضارية تحمل ذاكرة جماعية، ورسالة أخلاقية، ومنظومة قيم تُميزها عن غيرها من التكتلات البشرية. وقد آن الأوان أن يستعيد الخطاب الديني هذا العمق، ويقدمه بلغة معاصرة، لا تصادِم الدولة، بل تُكملها وتوجّهها.

الخطاب الديني الحديث قادر – إن أراد – على إعادة الاعتبار لمفهوم الأمة من خلال ثلاثة مسارات أساسية: أولها بناء الوعي المشترك، وذلك بإعادة الاعتراف بوجود أمة إسلامية تجمع المسلمين على اختلاف أعراقهم وأوطانهم، ليس بوصفها كيانًا سياسيًا موحدًا بالضرورة، بل بوصفها مجتمعًا عالميًا يشترك في منظومة من القيم والمبادئ المستمدة من القرآن والسنة، وعلى رأسها العدل، والرحمة، والتكافل، والكرامة الإنسانية.

وثانيها تحرير الخطاب الديني من الانغلاق المحلي، حيث يجب أن يتجاوز الخطباء والدعاة والفقهاء التركيز على الشأن المحلي الضيق، ليربطوا المسلمين بقضايا الأمة الكبرى، من فلسطين إلى الفقر في إفريقيا، ومن الأقليات المسلمة إلى قضايا المناخ والعدالة العالمية. هذه المقاربة لا تعني إهمال القضايا المحلية، بل إدراجها ضمن رؤية أوسع تعزز انتماء الفرد لأمة تتجاوز حدوده الجغرافية.

أما المسار الثالث فهو تجديد المفردات والمضامين؛ إذ لا يمكن إحياء الأمة بمفردات قديمة لم تعد تلامس وعي الأجيال الجديدة. لا بد من تقديم مفهوم الأمة بلغة تحاكي تطلعات الإنسان المعاصر: لغة تتحدث عن التعاون لا الهيمنة، عن التنمية لا الشعارات، عن التعدد ضمن الوحدة، لا الإلغاء باسم الهوية. الأمة في صورتها الحديثة يجب أن تُفهم كمجال للتفاعل الحضاري والتكامل، لا كبديل صِدامي للدولة الوطنية، بل كأفق يُغنيها ويوجهها نحو مسؤولية أكبر في العالم.

كما يتحتم على المؤسسات الدينية أن تلعب دورًا أكثر جرأة وواقعية في هذا المجال، من خلال تطوير مناهج التعليم الديني، والخطاب الإعلامي، والفتوى، والمشاركة في الحوارات العالمية، لترسيخ صورة الأمة الإسلامية بوصفها فاعلًا حضاريًا أخلاقيًا، لا مجرد كيان غائب عن المشهد الدولي.

إن إحياء مفهوم الأمة الإسلامية في الخطاب الديني ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة حضارية وأخلاقية، في عالم تتزايد فيه التحديات العابرة للحدود. وبينما تسعى أمم العالم إلى بناء تحالفات وهوية مشتركة لمواجهة تلك التحديات، لا يجوز أن يظل المسلمون أسرى لحدود مصطنعة، ولا لرؤى دينية محنطة لا ترى في الأمة سوى حلمًا ماضيًا. المطلوب اليوم خطاب ديني ناضج، يُعيد صياغة المفهوم بلغة العصر، ويستنهض الأمة لا لاستعادة المجد فحسب، بل للقيام بدورها كأمة "وسط" تشهد على الناس، وتقدم للعالم نموذجًا في التوازن بين الروح والمادة، بين الإيمان والعقل، بين الهوية والانفتاح.

فهل نملك الشجاعة الفكرية والدينية للقيام بهذه المهمة؟ هذا هو التحدي الحقيقي.

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.