wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
الوسطية والاعتدال: كفكر ديني وفلسفي وإنساني، كيف نرسخه للأجيال

 

الوسطية والاعتدال : كفكر ديني وفلسفي وانساني كيف نرسخه للأجيال .              

الدكتور زيد احمد المحيسن                                                                  

إنّ من أعظم ما تحتاجه البشرية في هذا العصر المضطرب هو الرجوع إلى القيم التي تحفظ التوازن، وتعيد للإنسان بوصلته الأخلاقية والمعرفية، وعلى رأس هذه القيم تأتي الوسطية والاعتدال، لا كمجرد شعارات مكرورة، بل كفكر راسخ ونهج حياة شامل، يتغلغل في الفكرة والسلوك، ويتجلى في التفاصيل اليومي من حياة الفرد والمجتمع. فالوسطية ليست حيادًا مائعًا، ولا تسوية باردة بين طرفين متناقضين، بل هي فضيلة تقتضي الحكمة، وتستلزم النظر العميق في الأمور، لتختار الطريق الأقوم، الذي لا يغلو ولا يجفو، لا يفرط ولا يفرّط.

في السياق الديني، نجد أن جوهر الرسالات السماوية كافة يدور حول الدعوة إلى التوازن في علاقة الإنسان بخالقه، ونفسه، ومجتمعه، وبيئته. وقد جاء الإسلام مؤكدًا على هذا النهج، حين وصف أتباعه بقوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، فدلّ ذلك على أن الوسطية ليست حالة طارئة أو خيارًا شخصيًا، بل هي سمة بنيوية في التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان. وقد جسّد النبي محمد ﷺ هذا المعنى في سيرته العطرة، إذ لم يكن في عبادته مغاليًا يشق على نفسه أو على أصحابه، ولم يكن في معاملته قاسيًا أو متساهلًا على حساب القيم، بل كان وسطًا في كل حالاته، يعلّمنا كيف نكون رُحماء بلا ضعف، وحازمين بلا عنف، وعبّادًا بلا تزمّت.

أما في البعد الفلسفي، فإنّ الاعتدال يمثل مرتكزًا أساسيًا في بناء التصورات الأخلاقية والمعرفية. فقد نظر إليه فلاسفة اليونان، وفي مقدمتهم أرسطو، على أنه "الفضيلة التي تتوسط بين رذيلتين"، فالكرم وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، وهكذا سائر القيم. وهذا الفهم الفلسفي لا يزال حيًا في الفكر الإنساني المعاصر، إذ تُجمع معظم المدارس الفلسفية الرصينة على أن التطرف الفكري أو السلوكي هو تهديد للذات الإنسانية قبل أن يكون خطرًا على الآخر، وأن الاعتدال لا يعني التنازل عن المبادئ، بل يعني التمسك بها دون انغلاق، وتطويرها دون انحراف.

من زاوية إنسانية، فإنّ الوسطية تعبّر عن نضج في الوعي، وسمو في الإدراك، وتوازن في قراءة الواقع. إنها تتجلى في قدرتنا على الإصغاء للرأي المخالف دون أن نخونه، وعلى التعبير عن الذات دون أن نلغي الآخر، وعلى السعي للعدالة دون أن ننقلب إلى جلادين. إن الإنسان الوسيط ليس ضعيفًا، بل هو أقوى الناس، لأنه يملك أن يكبح جماح غريزته حين تدعوه إلى الانتقام، ويملك أن يصبر على أهواء نفسه حين تغريه بالمبالغة أو الإسراف أو التعصب.

ولكن، كيف نغرس هذا الفكر الراقي في نفوس الأجيال؟ لا بد أولًا من أن نخرجه من دائرة التنظير المجرد، وأن نجعل منه ممارسة يومية حيّة، تبدأ من الأسرة، حيث يتعلم الطفل كيف يوازن بين رغباته وواجباته، وتمتد إلى المدرسة، حيث يُربّى على التفكير النقدي، والحوار البناء، واحترام التنوع، ثم تتجذر في المناهج التربوية التي توازن بين الأصالة والانفتاح، وتبتعد عن التلقين، وتقترب من العقل والوجدان. كما لا بد للإعلام أن يكون شريكًا في هذا البناء، من خلال تقديم نماذج واقعية للإنسان المعتدل، وتسليط الضوء على النجاحات التي تحققت بفضل التفاهم والتسامح، لا الصراع والإقصاء.

ولعل من أبرز ما يعين على ترسيخ هذا النهج هو القدوة. فالجيل لا يتربى بالشعارات، بل بالصور الحيّة التي يراها في معلميه ووالديه وقادته ومفكريه. فإذا رأى فيهم الاعتدال في القول والفعل، والوسطية في الفكر والموقف، نشأ على الاتزان، وأدرك بفطرته السليمة أن التطرف مهما بدا حادًا ومثيرًا، إلا أنه طريق قصير يؤدي إلى الخراب، وأن الاعتدال، على هدوئه وتؤدته، هو الجسر الآمن نحو النضج والسلام والكرامة.

إن بناء أجيال وسطية لا يعني تشكيل جيل رمادي لا موقف له، بل يعني تخريج أجيال قادرة على اتخاذ الموقف الصحيح في الزمن الصعب، دون أن تفقد إنسانيتها أو تغرق في ردود الفعل العنيفة. إنها مسؤولية جماعية تبدأ من البيت، ولا تنتهي عند منبر العالم أو قلم المثقف، بل تشمل كل من أراد أن يسهم في صون هذا العالم من السقوط في هوة التطرف، وإنقاذ الإنسان من أن يتحول إلى أداة للكراهية أو التعصب أو الغلو.

هكذا، تصبح الوسطية والاعتدال ليست فقط خيارًا فرديًا، بل مشروعًا حضاريًا شاملًا، نعيد من خلاله ترتيب أولوياتنا كأمم، ونستعيد به قيمنا التي كادت تذوب في صراعات الهويات والهواجس، لنؤكد للعالم أن الإنسان، أيًّا كان دينه أو لونه أو لغته، قادر أن يلتقي على أرضية الوسطية، فيصنع السلام، ويبني النهضة، ويضمن للكرامة الإنسانية أن تظل نبراسًا لا يخبو

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.