
في ذكرى المولد النبوي الشريف: أمة التوحيد التي شادها محمد ﷺ
الدكتور زيد أحمد المحيسن
حينما يهلُّ علينا فجر الثاني عشر من ربيع الأول، تقف الأرواح في خشوع، وتُصغي القلوب لنداء السماء الذي أذّن بولادة النور، محمد بن عبد الله ﷺ، خير من وطئت قدماه الثرى، ومَن أخرج الله به الناس من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وفي الرابع من سبتمبر لعام 2025، نحتفي مجددًا بهذه الذكرى العطرة، لا لنسترجع فقط ميلاد نبي عظيم، بل لنستلهم عظمة أمة صنعها ذلك النبي؛ أمة لم تكن تجمعها أرض أو لغة أو نسب، بل وحّدها الإيمان والتوحيد، وربط بينها عقدٌ متينٌ من العقيدة والرحمة والحق.
لم يكن محمد ﷺ قائدًا عسكريًا وحسب، ولا مصلحًا اجتماعيًا عابرًا، بل كان رسولًا من الله، أسّس أمةً على قاعدة إيمانية متينة، حيث كان أول ما نادى به في مكة: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". لم يُنادِ بعصبية قريش، ولا بتفوق العرب، بل دعا البشرية قاطبةً إلى التوحيد، فكان أول لبنة في بناء أمةٍ عابرةٍ للحدود، موحّدة للقلوب، شعارها: "إنما المؤمنون إخوة"، وقانونها: "الناس سواسية كأسنان المشط"، ورسالتها: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين".
أسّس النبي ﷺ في المدينة دولة لم تُبنَ على مصالح سياسية أو طموحات توسعية، بل على الإيمان بالله والولاء لرسالته، فأصبحت القبائل المتناحرة إخوة في الدين، والمهاجرون والأنصار جسدًا واحدًا، يحملون همًّا ورسالة واحدة. لقد صنع ﷺ أمة ذات هوية عقدية لا حدود ترسمها، ولا أعراق تقيّدها، بل تستمد وجودها من وحي السماء، وهدي النبوة، وإيمان راسخ بأن السيادة لله، والتشريع له وحده، وأن خير الناس أتقاهم، لا أشرفهم نسبًا ولا أكثرهم مالًا.
كانت أمة محمد ﷺ أمةً جامعةً لفضائل الأخلاق، رافعةً لراية العدل والحرية والرحمة، فشهد لها القرآن بقوله: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". إنها أمة تحمل الخير للعالم، لا الحقد، تنشر الهداية، لا الظلم، تبني الإنسان قبل أن تبني العمران. أمة كان نبيها إذا ذُكر اسمه قالت القلوب: ﷺ، وإذا ذُكر خلقه قالت العقول: "وإنك لعلى خُلُق عظيم".
لقد شيّد النبي ﷺ نموذجًا حضاريًا فريدًا لا يقوم على القهر، بل على الإقناع، ولا على البطش، بل على الرحمة. ترك وراءه أمةً كانت في جاهلية جهلاء، فصارت في غضون سنوات قليلة تحمل مشاعل النور، وتدهش العالم بعدلها وحكمتها وعلومها. أمة بدأت برجل واحد في غار حراء، فصارت نورًا عمّ المشارق والمغارب.
إن ذكرى المولد النبوي الشريف ليست مجرد احتفال بميلاد نبي، بل هي وقفة تأمل ومسؤولية؛ أن نعيد قراءة الرسالة، ونستلهم ملامح الأمة التي أرادها محمد ﷺ: أمة العقيدة لا العصبية، أمة الوحدة لا الفرقة، أمة الرحمة لا القسوة، أمة تحمل نور التوحيد، وتُعلي من شأن الإنسان، وتبني حضارة تنبع من الإيمان. فهل نكون اليوم أمناء على تلك الأمانة؟ وهل نستحق أن نُنسب إلى تلك الأمة العظيمة؟ فلنعد إلى الرسالة، ولنكن كما أرادنا محمد ﷺ..
ابحث
أضف تعليقاً