wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
نحو الانعتاق من إرث الصراعات المذهبية التاريخية

نحو الانعتاق من إرث الصراعات المذهبية التاريخية

 

بسام ناصر

لا يزال ذلك اللون من الجدل، الذي يتمحور حول خلافات وصراعات مذهبية تاريخية يثور في أوساط دينية إسلامية بين الفينة والأخرى، وغالبا ما يتحول إلى معارك كلامية، وصراعات عدمية، يهدف كل طرف فيها إلى تدمير الآخر، وإلغاء وجوده بالكلية، والاستحواذ على ساحة الفكر الإسلامي، والعمل الدعوي لاعتقاد كل اتجاه أنه على الحق الذي يجب اتباعه، ولا يسع الآخرين إلا موافقته في توجهاته واختياراته الدينية.

ذلك الإرث من الخلافات العقائدية والمذهبية، التي نشأت في سياقات تاريخية معينة، له تداعياته وحضوره وامتداداته في واقع الأمة وحاضرها، ومما يؤسف له أنها باتت قنابل موقوتة قابلة للاشتعال في أي وقت، إذا ما قدحت شرارتها قوى فاعلة ومؤثرة، تسعى لتوظيف تلك الخلافات والصراعات ضمن أجنداتها الرامية إلى تفريق كلمة الأمة، وإضعاف قوتها، وجعل بأسها بينها شديدا.

إن تغلغل إرث تلك الصراعات بنزعتها العقائدية والمذهبية الحَدَّيِّة في بنية العقلية الموجهة والحاكمة لأصحاب تلك الاتجاهات غالبا ما يورثهم حالة من الارتهان لتلك الصراعات الماضوية، ويجعلهم يقبعون في ذلك الزمن ولا يقوون على الخروج منه، فهم يديرون شؤون حاضرهم الديني والفكري برؤى وانشغالات عصور ماضية، كانت في زمانها حيوية ومركزية، لها وقعها وتأثيرها وفعاليتها، لكنها ينبغي أن تقرأ وتدرس في واقعنا الراهن في إطار مساقات دراسة تاريخية الأفكار وحسب.  

تُظهر دراسة تاريخ الخلافات العقائدية والمذهبية والطائفية للمسلمين أن أول خلاف جوهري وقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بواكير التاريخ الإسلامي، كان على الخلافة، وهو ما أفضى في تداعياته اللاحقة إلى ظهور رؤوس الفرق الأولى كالخوارج والشيعة، والتي تكاثرت وتناسلت فيما بعد، ما نتج عنه اتجاهات وانقسامات عقائدية وسياسية وطائفية مختلفة.

ولعل مقولة الإمام الشهرستاني، أحد مؤرخي الفرق الإسلامية التي يقول فيها "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلّ على الإمامة في كل زمان" تؤكد أن أعظم خلاف وقع في الأمة هو الخلاف على الإمامة، مع الإشارة إلى ما نبّه إليه بعض العلماء من مبالغته في إطلاق التعميم "في كل زمان"، إذ مرت على المسلمين أزمان لم تُسل فيه سيوفهم على الإمامة.

ولأن طبيعة السياسة الإسلامية تستند إلى الدين وتستمد منه، فإن الخلافات السياسية اختلطت بالعقائد والتعاليم الدينية، وهو ما أكدّه ولفت إليه الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) في معرض بحثه عن تشكل المذاهب الإسلامية إذ يقول "الخلاف السياسي، أو المذاهب السياسية ابتدأت سياسية تنزع منزعا سياسيا، ولكن طبيعة السياسة الإسلامية ذات صلة بالدين، وهو قوامها ولبها، ولذلك كانت المذاهب السياسية التي نشأت تحوم مبادئها حول الدين، فتقرب منه أحيانا، وتبتعد عنه أحيانا بتخريجات فيها انحرافات عن مبادئ..".

إن الخلافات السياسية التي حدثت بين الصحابة وصاحبتها فتن وانقسامات واقتتال، كواقعة الجمل وصفين، لها سياقاتها وظروفها، وقد قامت وانقضت وانفض سوقها، وهي مما ينبغي أن يقال فيها ما قاله تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134) فواجب المسلم المعاصر وهو يقرأ أحداث تلك الفتن، ويطالع وقائعها في كتب التاريخ هو تعظيم الصحابة وإنزالهم منزلتهم اللائقة بهم.

 إذ ينبغي للمسلم أن يعظم الصحابة الكرام ويحفظ لهم سابقتهم، ويكف عن الخوض فيما شجر بينهم، أو النيل منهم، والطعن فيهم، فهم "أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" كما قال عبد الله بن مسعود في مدحهم والثناء عليهم.

وعند التدقيق فإن ارتياد ذلك الميدان والخوض فيه، لا سيما إن كان باعثه الهوى، ومحركه الدوافع المذهبية والطائفية، لا ثمرة ترتجى منه، ولا فائدة تترتب عليه، هذا إن لم ينزلق الخائض في ذلك إلى الوقوع في أعراض قوم هم خيرة الأمة، وجيلها القرآني الأول الذين أقام الله بهم الدين، ونشره على أيديهم في كثير من البلاد خارج الجزيرة العربية.

 أما دراسة أحداث الفتنة، والوقوف على طبيعة تلك الاختلافات بمقدماتها ومآلاتها، فيحسن بمن يتصدى لذلك أن يعرف للصحابة مكانتهم ابتداء، وليجتهد في تحقيق الروايات وتدقيق النظر فيها، قبل تكوين أية رؤية، أو إصدار أي حكم، وليكن همه الإعلاء من قيمة المبادئ مع الاحتفاظ للصحابة بمكانتهم، وليفرق بين الوحي والتاريخ، فالمقدس هو الوحي أما التاريخ فهو سجل حافل باجتهادات البشر وأفعالهم، كما أوضح ذلك الباحث الموريتاني، الدكتور محمد المختار الشنقيطي في رسالته "الخلافات السياسية بين الصحابة.. رسالة في قدسية المبادئ ومكانة الأشخاص".

ثم إن الخلافات العقائدية التي حدثت في أوساط أهل السنة، ونتج عنها اتجاهات عقائدية ومذهبية مختلفة، كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وأهل الحديث..، وكذلك الخلافات العقائدية والمذهبية التي وقعت بين أهل السنة والشيعية الإمامية الإثني عشرية، هي خلافات لا يمكن إلغاء وجودها والقضاء عليها بحال، فهي قابعة ومستقرة في البنى الذهنية لكل طرف، ومتجذرة في عقول أصحابها، وغاية ما يرجوه العقلاء الحكماء هو إشاعة ثقافة التعايش بين المختلفين، واحترام الأطراف لبعضها البعض، وأن تشيع بينهم أخلاقيات وأعراف تضبط علاقاتهم، وتنضبط مساراتها في إطار البحث والحوار والجدل بالتي هي أحسن، مع الابتعاد عن نزعة الإقصاء وإلغاء الآخر، بتوظيف قوة السلطة وأدواتها الباطشة.

إزاء ذلك كله ما الذي يجنيه المسلمون المعاصرون، على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم حينما يستدعون تلك الخلافات العقائدية والسياسية والمذهبية في واقعنا المعاصر؟ فتراهم يعيشون عصرهم بروح تلك الأزمان والعصور، ما يدفعهم إلى إحياء جملة من الأوصاف المنتزعة من تاريخ تلك الصراعات التاريخية، كالخوارج والمرجئة، والرافضة والناصبة، والجبرية والقدرية، والمعطلة والمشبهة، فيتراشقون بينهم بتلك الأوصاف المجرحة على سبيل الذم والطعن والانتقاص.

 

إن وعي المسلمين برسالة الدين المنزل، بوصفه وضعا إلهيا ساميا، وتشريعا ربانيا هاديا، أنزله الله تعالى لإصلاح دنيا الناس في كل زمان ومكان، وإقامتهم على الجادة يحتم على المسلمين، على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، القيام بما أمرهم الله به من إقامة الدين بأصوله وفروعه وشرائعه، والابتعاد عن الاختلاف فيه، وأن يكون سببا لتفرقهم، كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..}(الشورى:13).

فالأصل في الدين أن يكون هاديا ومرشدا وسبيلا جامعا لأتباعه على صعيد واحد، فالدين من أعظم أسباب تأليف القلوب، بما يشيعه في أوساط المؤمنين من بث روح الأخوة والتآخي، وحثهم على الاجتماع والتعاون على كل خير، ونهيهم عن التفرق في الدين، يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري "ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم"، ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي "ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابا، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم".

يحسن بالمسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، وهم يواجهون سيلا من التحديات المعاصرة، والتي تشكل تهديدا حقيقيا لدينهم وعقيدتهم، أن ينعتقوا من أسر تلك الصراعات التاريخية وأغلالها، لما تتركه في واقعهم من آثار وتداعيات سلبية مُقعدة، كتفريق صفوفهم، وتشتيت كلمتهم، وذهاب ريحهم، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وليجتمعوا على كلمة سواء يتعاونون في إطارها على القواسم المشتركة المتفق عليها، وليتجاوزا دوائر الخلاف والصراع إلى الإعلاء من قيمة ثقافة التعايش والتنوع، وتمثل أصول فقه الاختلاف وأخلاقياته في مواقفهم وسلوكياتهم.

وتجدر الإشارة إلى أن الصراع المذهبي غالبا ما يتم توظيفه واستغلاله من قبل جهات وقوى خارجية، كورقة وأداة لتعميق مظاهر الشقاق والنزاع بين أبناء الأمة الإسلامية، ما يمكنهم من إضعافها، وإذهاب قوتها، بتأجيج الانتماءات المذهبية والطائفية الضيقة، مع أن الإسلام بتعاليمه الهادية، وقيمه الراشدة، جمع المسلمين على اختلاف أعراقهم وقومياتهم بجامع الدين والعقيدة، وأقامهم في صعيد واحد كأمة واحدة، وهذا عنوان قوتهم وعزتهم، وقدرتهم على مواجهة التحديات الخارجية.

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.