wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
وباء التعليقات السلبية في العالم الرقمي

وباء التعليقات السلبية في العالم الرقمي

 د. منذر القضاة

 

شاهدت مؤخراً على منصة الفيس بوك فيديو مباشر لشخص يقوم بعرض منظر لفتاة صغيرة خرجت من مدرستها تائهة عن بيتها ، وهي تبكي بحرارة ، ويطلب ممن يشاهد هذا الفيديو أن يقوم بنشره على أوسع نطاق للوصول إلى أهل البنت .

لما قرأت جانبا من التعليقات على هذا الحدث فوجئت بحجم التفاعل السلبي مع ناشر الفيديو مما دعاني إلى كتابة هذا المقال.

إنَّ اللحظة التي يُنقل فيها حدثٌ ما من الواقع إلى الفضاء الرقمي الواسع، يتحول من كونه مشهداً يحمل سياقاً أو خبراً له أبعاده، إلى مجرد "نص" مكشوف أمام سيل من الأحكام المعلَّبة والتعليقات المنفعلة.

يبادر بعضهم في ضوء هذا الحدث بإطلاق أحكام متناهية في السلبية، منفصلة عن سياقها وعن الواقع ، وكأن العقلانية والتروي أصبحت عملة نادرة في هذه الأيام

بالرغم من أنَّه في عصرنا الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب ومنصة إكس (تويتر سابقاً) وتوسع رقعة استخدامها قد أصبحت منبراً للتعبير عن الآراء والتفاعل مع الأحداث والأخبار التي لا تنقطع .

 إلا أنه أصبحت التعليقات السلبية ظاهرة ملفتة للنظر؛ فالكثيرون يعلقون دون تقدير لقيمة المشهد أو الحدث، أو الخبر، فيضيفون تعليقات في معظمها سلبية دون وعي أو تفكير عميق.

هذه التعليقات لا تعكس فقط عدم النضج الفكري، بل أيضًا عدم الوعي بالتأثير السلبي الذي قد تتركه على الآخرين ممن يقرأ .

كما يلاحظ أنَّ بعض المعلقين يفتقرون إلى تقدير قيمة المشهد أو الحادث أو الخبر المقدم، فيسارعون إلى التعليق بسلبية مفرطة أو يصدرون أحكاماً فردية متسرعة، دون مراعاة للعقلانية أو الدليل على صحة تعليقاتهم .

هذا السلوك يعكس غياباً للوعي بتأثير الكلمة، مما يحول هذه المنصات إلى ساحات للتشويه بدلاً من التبادل البناء.

لقد أصبحت معظم التعليقات في منصات مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" و"إكس" ساحةً للاندفاع العاطفي، حيث تُلقى الكلمات كالحجارة، يحكم فيها المعلق على مشهدٍ مُنفرد وكأنه قاضٍ في محكمة نهائية، بلا رؤية شمولية ولا روح نقدية بناءة.

تتجلى الصور السلبية لهذه التعليقات في عدة أشكال، تجعل من التفاعل الرقمي مصدراً للتوتر والانقسام بين الناس ويزيد المشهد الفرقة .

 على يوتيوب، على سبيل المثال، يمكن أن يتحول فيديو تعليمي أو إخباري إلى ميدانٍ للهجوم الشخصي، حيث يركز المعلقون على عيوب المقدم أو يشوهون المحتوى دون أساس، مثل اتهام شخص بالكذب ، أو "التضليل" دون دليل.

أذكر أنني شاهدت فيديو على قناة اليوتيوب قبل سنوات لشخص في إحدى الدول يقوم بإنقاذ عائلة محاصرة في سيارة حاصرتها مياه السيل ، وبكل شجاعة انقذ الأسرة مغامراً بحياته ، والعجيب أنه من ضمن التعليقات على الفيديو  أنَّ معلقاً انكر على المنقذ انقاذ العائلة وكان الأولى به انقاذ البلاد من الفساد !!!

كذلك، على منصة إكس، حيث تكون التغريدات قصيرة وسريعة الانتشار، ينتشر التشويه السريع للأحداث، كالتعليقات الساخرة أو المسيئة على خبرٍ سياسي أو اجتماعي، مما يؤدي إلى تضخيم الشائعات وإثارة الفتن. وفي مواقع التواصل الأخرى، تظهر التعليقات السلبية في شكل غيبة أو نميمة، حيث يحكم الأفراد على الآخرين بناءً على انطباعات شخصية، مما يعزز ثقافة الإدانة الجماعية ويقلل من قيمة الحوار العقلاني. هذه الصور تؤثر سلباً على الصحة النفسية للأفراد والمجتمع، وتجعل المنصات أداة للإيذاء بدلاً من التواصل.

لمعالجة هذه السلوكيات السلبية، يمكن اتباع طرق سهلة ومؤثرة مستمدة من تعاليم الإسلام، التي تركز على ضبط اللسان وتعزيز القول الحسن.

أولاً: يجب على المستخدمين التوقف قبل التعليق وتذكر أنَّ الكلمة مسؤولية، فالقرآن الكريم يأمرنا بقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ([1]) ، مما يدعو إلى اختيار الكلام الطيب الذي يبني لا يهدم.

 ثانياً: تجنب الغيبة والنميمة، كما نهى عنها النبي محمد - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - في قوله: " أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ. قيلَ: أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّهُ "([2]) ، فبدلاً من التعليق السلبي، يمكن استبداله بصمت أو تعليق بناء يركز على الجوانب الإيجابية.

كما يقدم القرآن الكريم حلاً مؤثراً في قوله تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ ([3])، مما يشجع على الردِّ بالكلمة الطيبة أو العفو، حتى لو كان المحتوى مثيراً للغضب. وفي السنة النبوية، قال - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -: " مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ" ([4])، وهذا حل عملي: قبل كتابة تعليق، اسأل نفسك إن كان خيراً، وإلا امتنع. كذلك، يمكن تطبيق قاعدة "التفكير قبل النشر"، مستلهمة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)﴾([5])  ، لضمان أن يكون التعليق مدروساً وعادلًا. هذه الحلول سهلة التطبيق، مثل تعيين تذكير يومي بآية أو حديث، وتؤثر إيجاباً في تحويل المنصات إلى أماكن للخير.

في الختام، يمكن للتعليقات السلبية أن تكون مدمرة لنا ولغيرنا ، لكن بالالتزام بتعاليم القرآن والسنَّة، نستطيع بناء مجتمع رقمي أفضل. فلنتذكر أنَّ الكلمة الطيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)﴾ . ([6] 

وأن نكون واعين بتأثير تعليقاتنا على الآخرين، وأن نسعى لتعزيز ثقافة التعليق الإيجابي والبنّاء. من خلال التثبت من المعلومات والتحلي بالأخلاق الحميدة، يمكننا أن نخلق بيئة إيجابية ومحفزة على مواقع التواصل الاجتماعي .

إنَّ كل تعليق نكتبه هو شهادة ستُسجل علينا في عالم يسهل فيه إلقاء الكلمات دون تفكير، يجب أن نتذكر مسؤوليتنا أمام الله وأمام الناس فلنجعل من منصاتنا الرقمية مساحات للنقاش البناء والكلمة الطيبة، ولنحارب ظاهرة السلبية بالتروي والتثبت وحسن الخلق، فبذلك نرتقي بأنفسنا ومجتمعاتنا. ([7] 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.